الوزير السابق البكاي ولد عبد المالك يكتب : الحرب الآن وليس غدا فقد مسّنا وأهلنا الضر
ما حدث في الفترة الأخيرة على حدودنا الشرقية يستدعي عقابا قاسيا وحمل زمام المبادرة في حرب استباقية من خلال ضربة قوية وخاطفة تلقن النظام العسكري الحاكم في الجارة الجنوبية المدعوم عسكريا من قبل مرتزقة فاغنر الروسية درسا لن ينساه أبدا من أجل القضاء على غروره وإعادة هيبة البلد وسيادته وأمن مواطنيه وكرامتهم!!
مثل هذا الهجوم لن يكون وسيلة لاستعادة سيادتنا وهيبتنا وفرض الأمن على حدودنا الشرقية كما كانت على الدوام، بل سيكون وسيلة مناسبة لتذكير شركائنا في الغرب وفي حلف الشمال الأطلسي بأن لديهم مصالح هنا.
نعم يجب أن يتذكروا أن الحرب المحتملة ضد النظام العسكري في مالي المدعوم عسكريا من قبل مرتزقة فاغنر الروسية، هي أيضا حرب بالوكالة شئنا ذلك أم أبينا ضد تمدد الدب الروسي وافتراسه للمزيد من الدول والأنظمة الإفريقية بسبب إهمال الحلفاء.
وهي أيضا علاوة على ذلك، حرب بالوكالة ضد الجماعات المسلحة والتطرف العنيف، الذي يتمثل عدوه الأول في الغرب وليس أنظمة الحكم في شبه المنطقة التي تعتبرها تلك الجماعات مجرد بيادق وأدوات لتنفيذ الأجندات الغربية الأمريكية والفرنسية في شبه المنطقة، وبالتالي يتعين القضاء عليها تمهيدا للمواجهة المباشرة مع العدو الحقيقي الذي هو في نظر تلك الجماعات الغرب اليهودي-المسيحي، الهلنستي.
هذه الحرب هي أيضا حرب بالوكالة من أجل تجفيف منابع الهجرة السرية التي باتت تهدد بشكل مباشر سكينة دول الجوار الأوروبي وتقلق راحتهم.
الضمانة الأكيدة لنجاح الحرب الاستباقية أو الضربة الخاطفة هو أنها ستعمل على إجهاض أية نوايا للعدو، وستفسد أية مخططات مبيتة للاعتداء علينا. وما يضمن نجاح هذه الحرب الاستباقية أيضا – وهو الأهم – هو تفوق التقنية العسكرية الغربية على نظيرتها الروسية، فما تواجه السلاحان الغربي والشرقي إلا كانت الغلبة والتفوق الكاسح للسلاح الغربي على نظيره الروسي، بسبب العامل التقني الذي أشرنا إليه. الحالة الأوكرانية في الحقيقة ليست مثالا جيدا في هذا الصدد لكون ساحة المعركة تقع على حدود المركز، أي على حدود روسيا بالذات التي لا ننسى أنها دولة عظمى تمتلك ترسانة هائلة من أسلحة الردع، وبالتالي لا تكون هزيمتها على حدودها أمرا سهلا بالمرة، ولا حتى هدفا في ذاته لدى الحلفاء. ولكن الأمر ذاته لا ينطبق على أنظمة أنهكها افتعال الأزمات وفتح الجبهات المتعددة الداخلية والخارجية مع شعوبها ومع الجيران المسالمين في آن واحد وبدون سبب وجيه.
مثل هذه الحرب لن تكون سببا في استعادة السيادة والكرامة لمواطنينا فحسب، بل هي من منظور استراتيجي كذلك وسيلة أكيدة لإعادة تسليح جيشنا من طرف حلف الشمال الأطلسي بالأسلحة المتطورة: القاذفات والمروحيات الهجومية والصواريخ ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة وأنظمة الإنذار المبكر وغيرها التي تضمن لبلادنا التفوق العسكري والريادة والاحترام والسيادة الكاملة على حدودها.
والخلاصة هي أن ما دفع هؤلاء على التحامل علينا وعلى مواطنينا وحوزتنا الترابية إلا الحسد والغيرة، فبلادنا هي واحة الاستقرار الوحيدة في شبه المنطقة أو تكاد، وقد حباها الله بموقع جغرافي استراتيجي وبمنافذ بحرية شاسعة على المحيط جعلتها مفتوحة على التجارة الدولية مع أوروبا وأمريكا، وهي علاوة على ذلك مقبلة على استغلال ثروات هائلة قد تغيّر من وضعيتها الاقتصادية والجيوستراتيجية وتوسع نفوذها في شبه المنطقة وفي العالم..نعم هذه الأسباب كافية لكي تدفع من لا يمتلك تلك المقومات وحرم من تلك النعم إلى الشعور بالغيرة..
تلك هي دعاوى دعاة الحرب الذين بدأت أصواتهم ترتفع في الآونة الأخيرة، وقد باتوا بالفعل مقتنعين بأن الحديد لا يفلّه إلا الحديد، وأن التحدي لا يقاوم إلا بالتحدي، فأين نحن بالفعل من تلك الدعاوى؟
هدوء الحكومة الموريتانية والحكمة التي تحلى بها رئيسها السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ومعاونوه في التعامل مع التطورات التي تحدث في الحدود الشرقية ليس عامل ضعف كما قد يخيّل للكثيرين من دعاة الحرب.
تاريخياً المرابطون هم من وضع حدا لأهم وأغنى امبراطورية زنجية في شبه المنطقة، وليس أحفادهم بأعجز ولا أقل حيلة لوضع حد لطموحات جماعة قليلة من العسكر من ذوي الرتب المتوسطة أفقدتها قساوةُ الظروف صوابَها، ولم تعد تميّز بين الصديق والعدو، هذا إن كان بالفعل لتلك الجماعة طموحاتٌ وأفكارٌ من هذا القبيل.
الحرب ليست حلا إلا في الظروف القصوى، ولا يتم اللجوء إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل السلمية. هناك أكثر من عامل يعزز هذا الطرح في الظروف الحالية.
القانون الطبيعي الأول من قوانين الطبيعة عند مؤسس الدولة الحديثة وواضع نظرية السيادة يقول: “يجب أن نجتهد في البحث عن السلم ما دام هناك أمل في الحصول عليه، فإن لم يكن ثمة أمل في الحصول عليه يجب أن نستخدم ما تقدمه الحرب من مزايا ومنافع”. هذا هو لسان حالنا نحن الآن حكومةً ونخبةً، ويجب على الجميع أن يتركوا مهمة تقدير الأوضاع لمن لديهم مقاليد الأمور.
“الأزمة” الحالية إذا جاز لنا تسميتها بهذا الاسم، قد تكون مجرد محاولة لجر الحكومة الموريتانية واستدراجها إلى مستنقع الحرب القذر الذي تصر على رفضه، وحملها على الدفع بالمزيد من القوات إلى الحدود الشرقية وعسكرتها، ما يجعل تحرك الجماعات المسلحة مكشوفا، ويجعلنا نحن بالتالي شريكا فعليا في الحرب عليها إلى جانب الأنظمة العسكرية الانقلابية.
الدولة الموريتانية لم تكن يوما ظهيرا للإرهاب، وليس من مصلحتها ذلك، لكنها مع ذلك قادرة على التمييز بين الإرهاب بما هو إرهاب، وبين حق الجماعات في التعبير عن نفسها وعن خصوصيتها الثقافية، وحصولها على الحد الأدنى من التنمية والمشاركة السياسية في إدارة شؤون بلدانها.
افتعال الأزمات وخلق المشاكل مع مواطنينا على الحدود الجنوبية الشرقية، وفي مثل هذه الوقت من العام تحديدا، حيث تتجه مئات الآلاف من رؤوس الماشية مع أصحابها صوب الجنوب للانتجاع لفترة قصيرة جدا لا تتجاوز الشهر أو الشهرين بسبب الجفاف وقلة المراعي وندرة المياه بشكل أخص، هو بالأساس محاولة إلى جر الطرف الموريتاني إلى اللجوء إلى المعاملة بالمثل، ومنع مواطني الطرف الآخر من قوميات محددة من الصعود بعد أشهر قليلة من الآن في الرحلة السيزيفية التي اعتادت عليها عبر السنين في اتجاه بلادنا للانتجاع على مدى أشهر عديدة، وهربا من الأمراض الموسمية التي تصيب الماشية في الجانب الآخر من الحدود بسبب الرطوبة وكثرة الطفيليات.
ورب قائل يقول إن لجوء الطرف الموريتاني إلى المعاملة بالمثل ومنع مواطني الشقيقة مالي من الصعود نحو الشمال هو بالفعل ما ترغب فيه أطراف معينة في الجانب الآخر من الحدود من أجل تصفية وملاحقة بعض الجماعات العرقية المتهمة بدعم الإرهاب، وليس الهدف منه حقيقةً استهداف المواطنين الموريتانيين.
وإذا ما صح هذا الزعم فإنه لا توجد نيةٌ مبيتةٌ للحرب لدى الطرف الآخر في الشقيقة مالي أو للمساس بسيادتنا الوطنية وأمن مواطنينا، وإن كان هناك سببٌ قويٌ للاعتقاد بوجود مصلحة لديه في انخراط الجيش الموريتاني والحكومة الموريتانية في مسارات العسكرة ومتاهات الحرب الشاملة في منطقة الساحل.
إن عدم الرضوخ للابتزاز في هذه المسألة إن صح وجودها بالفعل، هو في الواقع دليلٌ على الحكمة وانتصارٌ للقانون الدولي الإنساني ومنع لإبادة جماعية محتملة لجماعات بأكملها، تستحق الحكومة الموريتانية إزاءه وقفة اعتراف وتقدير ودعم من المجتمع الدولي ومن الحلفاء الغربيين على وجه الخصوص، وهو ما نزال نفتقده للأسف حتى الآن مع استمرار تدفق موجات اللاجئين الماليين وإغراق المدن الموريتانية من فصالة وحتى العاصمة انواكشوط بموجات بشرية من مواطني الشقيقة مالي خصوصا من الطوارق والفلان الذين أصبحت تغص بهم شوارع العاصمة، وقد وصل الأمر حدودا أصبحت تهدد السكنية والأمن الوطنيين ولم يعد في مقدور الحكومة الموريتانية تحمل تبعات ما قد يحدث من جراء ذلك بمفردها.
وفي تقديرنا أن المقاربة التي اعتمدتها الدولة الموريتانية في حل مشكلة التطرف العنيف القائمة على الحوار والقوة الناعمة كانت ناجعة ولا تزال كذلك، وبالتالي لا يوجد سبب وجيه لتغييرها الآن، لأن حل مشاكل التنمية وتوزيع الثروة على أسس صحيحة أسهل وأقسط من إعلان الحرب وتصفية الجماعات.
ومع ذلك لا تزال الحكومة الموريتانية بعيدة عن ممارسة الضغط المطلوب على الحلفاء في حل مختلف هذه المشاكل وتداعياتها والتي تهدد أمنهم الإقليمي كما تهدد أمننا الوطني بشكل جدي. مقتضيات الأمن الجماعي تفرض على الطرف الأوروبي وعلى حلف الشمال الأطلسي تحديدا مواجهة المخاوف بتمدد “المعسكر الشرقي” في دول الساحل والرد عليها من خلال لفتة قوية تجاه الدول الحليفة التي لا تزال واقفة على قدميها.
ذلك أن انهيار تجمع دول الساحل الخمس قد يفتح المجال لتسرب لاعبين آخرين مهمين لأمن أوروبا واستقرارها. فقد تدفع الظروف والمطالبات الشعبية الحكومة الموريتانية والسنغالية، آخر حليفين للغرب في شبه المنطقة، إلى تعديل الأوتار وتغيير السياسات والعزف على وتر التغيير كما فعلت مثيلاتهما بغض النظر عن المآلات، فالدول تحكمها المصالح ولا حاجة للصديق إلا في وقت الشدة.