مهرجان العيون لتنمية الثقافة و التراث يوقظ إشعاعَ ثانويتها المنسي
سأتناول مهرجان العيون لتنمية الثقافة و التراث ، في هذه المداخلة المكتوبة / على هامش المهرجان ، من زاوية واحدة ، هي عنوان نسخته لهذا العام “ثانوية العيون في ذاكرة خريجيها” ..
و من بين خريجي ثانوية العيون ، سأتناول الجيل الأول أو الأجيال الأولى (كما عرَفتُها عن بعد) ، التي اشتركت صفات الجيل الواحد لتشابه الظروف و الطموح و التحديات ..
جيل واحد بأوجه متعددة ، كان قمة في كل منها ، في لوحة بديعة بكل ألوان الطيف ، هو كان بلا منازع ،
*جيل التحدي* :
هذا الجيل (جيل الأوائل) ، تحَدَّى كل الصعاب بإرادة تستحق الإشادة و التقدير .
– لم تكن دراستهم (في الغالب) ، ذات أهمية عند أُسَرِهم : بل كانت بقرار منهم و هم في عمر الطفولة (..!)
– كان فوز أكثرهم من الابتدائية إلى الإعدادية ، رحلة تشرد و تنقل في ظروف صعبة (سيرا على الأقدام و على الجمال و في شاحنات يختط في مؤخرتها البشر و المواشي و ما حوت الطريق) ، تنتهي بالعيش في الداخلية (Internat) أو عند أقارب أو معارف ، يأوون عادة مجموعة كبيرة من أمثالهم ، في ظروف لو تكلموا عنها اليوم لما صدقهم أحد..!
– و كان حصولهم على الباكالوريا ، رحلة إلى فضاءات أخرى أصعب بكثير و أقرب في كل تفاصيلها إلى الأسطورة : الدراسة في الخارج على نفقة الدولة شديدة الشح ، فكان أكثرهم يخلط بين العمل ليلا و الدراسة نهارا ، لتغطية مصاريفه الشهرية..
و هو كان ، بلا منازع ،
* جيل العباقرة* :
– درسوا بلا كراسي و لا كتب و لا مراجع و لا كهرباء و لا دفاتر و لا أقلام (الدفتر الواحد و المِحبَرة و “لمبة” البترول المُزْكِمَة ، إن وُجدَت)
– كانوا جميعا متفوقين ، بمستوى أذهل الجامعات و المدارس و المعاهد الغربية و العربية ..
و هو كان بكل المقاييس ،
*جيل المُمَيَّزين* :
كان تميزهم في إيمانهم بقدرتهم على التحدي و تجاوز الشكليات و الإصرار على بلوغ أهدافهم بقدراتهم الذاتية ..
ليس لأي أحد فضل عليهم في نجاحهم ( لا بتدخل و لا بواسطة و لا برشوة لا بنفوذ) ، سوى تلك الأُسر المُجاهدة ، الكريمة التي كانت تأويهم مجانا و التي كانت تستحق كل تكريم من الدولة و المجتمع ، التي # ندعو اليوم هذا المهرجان الاستثنائي في طموحاته و أهدافه ، أن يخص بالثناء ، (في هذه النسخة التي احتلت عنوان *”ثانوية العيون في ذاكرة خريجيها*”) ، تلك الأسر العظيمة المعروفة لدى الجميع بالأسماء . و الترحم على من غابوا منهم . مع العلم أن كل ساكنة العيون انفردت و اشتهرت بأنها ظلت مأوًى سخيا للجميع ، كما وصلنا من اعترافات عابرة ، في قالب الذكريات ، من أحاديث تلك الأجيال الصادقة.
وهو كان باعتراف الفرنسيين و الأجيال اللاحقة ،
* جيل الأوفياء* :
كل من تخرجوا من الأجيال الأولى بتفوق و تميز ، كانوا يستطيعون العمل في بلدان تخرجهم بجدارة و بفوائد أكبر بكثير من الرواتب الموريتانية المصنفة ضمن الأضعف في العالم ، لكنهم عادوا جميعا إلى أرض الوطن ليخدموا بلدَهم و شعبَهم بوفاء ، رغم سهولة حصولهم (حينها) ، على التآشر و الإقامة و التجنيس ، عكس من تخرجوا منها في العقود الأخيرة و فضلوا البقاء في تلك البلدان ، ناسين فضل البلد عليهم و حاجتَه إليهم و واجبَهم الوطني المقدس اتجاهه .
و لا أعتقد أنه من بيننا اليوم من ينكر أنهم كانوا أولا ،
*جيل المخضرمين* :
لقد عاشوا البداوة بأجمل ما فيها و عاشوا المدنية بأجمل ما فيهم ..
الأجيال الأولى من خريجي الثانويات الموريتانية الأقدم (نواكشوط ، روصو ، العيون ، أطار) ، هم (و هذا ما يتجاوزه الجميع) ، من عبَرَ الشعبُ الموريتاني على ظهورهم من البداوة إلى المدنية : وُلد جلهم في البوادي و عاشوا حياة أهلها و تعلموا في محاظرها ؛ رَعَوْا و نَمَّوْا و حَرَثُوا ، ثم التحقوا بالمدارس العصرية و برعوا في العلوم و الرياضيات و الفلسفة و اللغة و الأدب . و التحقوا بالجامعات الغربية و العربية و تخرجوا منها بتفوق و تميز و عادوا أدراجهم يخطفهم الحنين إلى أرض الوطن، ليصبحوا أُطُرًا مَحلية في شتى المجالات ، تقود المجتمع إلى مدنية متحضرة ، لا يفسخ المجتمع فيها (كما اليوم) ، جلده كالأفعى و لا كالأفعى تستهويه غريزة لدغ الصديق و العدو كما تروج الثقافة الغربية الحارسة لفلسفة “الغاية تبرر الوسيلة”.
كانت أجيالا عظيمة لم تتنكر لبداوتها و لم تُبهِرها مدنيتها حد المسخ ، عَبَرَ الجميع على ظهرها من الخيمة إلى البيت و من شُعلة الحطب و أدخنتها القابضة إلى المُدُنِ المُضاءة و الأجهزة العصرية المُعقدة.
ثانوية العيون ، على غرار الجيل الأول من الثانويات في البلد ، كانت جامعة حقيقية ، بعبقرية طلابها و التزام أساتذتها و إشعاع فضائها المُلتهب : كانت فضاء جامعيا في الثقافة .. في الوعي .. في السياسة(…)
فيها تشكلت أقدم الحركات السياسية ..
و منها انطلقت كل المظاهرات الطلابية المناهضة للظلم و اللا مساواة و الاستغلالية و كل أنواع الحيف و التعسف..
ثانوية العيون ظلت صرحا علميا عتيقا و مَسرحَ عصيانٍ مدني مُلتهبا ، لا يمكن أن يَنسَى أو تنساه أجيال التنوير الأولى .
هنا في هذه المدينة الهادئة ، عرفت الحجارة كيف تعانق الإنسان بود : عرفت كيف تكون لوحة فنية رائعة الجمال .. عرفت كيف تكون لبنة البناء الأقدم و قلعة الدفاع الحصينة ..
و عرفت هذه الحجارة المباركة ، كيف تهز عروش كل أنظمة البلد : هنا كانت الشوارع تغص بالمتظاهرين و تمتلئ السجون بالثوار ، لأبسط هفوة من النظام .
و هنا ، هاهنا ، ظلت ثانوية العيون العتيقة ، قلعة العصيان الأصعب و ملعب القوافي الأجمل ..
– شكرا لمن أيقظوا فينا اليوم ، ذاكرة مدينة العيون الجميلة ، بهذا العرس الثقافي البديع ..
– شكرا لمن شرفونا و كرمونا بالدعوة لحضور استنهاض هذه الملحمة الثقافية المطمورة في رمل وجع النسيان ..
– شكرا لمن ألقوا بمثل هذه التظاهرة الجميلة ، حَجَرًا صغيرا في قلب كل واحد منا : تَذكَّرْ أن لمدينتك عليك دينًا أداؤه لا يكتمل و نسيانه لا يغتفر..
شكرا لكم على هذا الإصرار الأسطوري على تميز كل نسخة بتنوع زوايا الحدث..
و لكم جميعا، مُبادِرين و منظمين و مشرفين و منفذين ، أرفع قبعتي عاليا ، عاليا ، بكل إجلال و تقدير و احترام .
سيدي علي بلعمش
العيون : 02 / 09 / 2023