المسار التشريعي لمعالجة مشكلة الرق في موريتانيا / محمد عبد الرحمن الحسن البشير
يعتبر الاستعباد أو الاسترقاق ظاهرة قديمة، ظهرت مع اكتشاف الزراعة، وبداية الاستقرار البشري، وظهور الصراعات الأولى على مصادر الإنتاج (الأرض) حيث كان يتم استغلال الأسرى لخدمة الجماعة المنتصرة بدل قتلهم، وتواترت المصادر على أنه لا توجد حضارة إنسانية لم تعرف الرق، مع تفاوت في ذلك، فقد نظمت شريعة حامورابي- 1790 ما قبل الميلاد-علاقة العبد بسيده في المواد: من 278 إلى 282.
وفي الحضارة اليونانية مثل الرقيق أسفل الهرم الاجتماعي، ولم يكن يتمتع بالشخصية القانونية، وليست له أي حقوق، والأمر كذلك بالنسبة للحضارة الرومانية، والحضارة العربية قبل الإسلام، ومع قدوم الإسلام، بدأ في محاولة التخفيف من حدة هذه الظاهرة، فقد جاءت الشريعة الإسلامية بنظام ثوري لمكافحة الرق، تمثل في التدرج في علاج هذه الظاهرة، حيث شجعت على تحرير الرقيق في الكفارات، وضيقت أسباب الاستعباد، ودعت إلى حسن معاملة الرقيق.
وحتى العصرين الحديث والمعاصر ظل الرق يمثل أسوأ الجرائم ضد الإنسانية، حيث يعتبر انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، فقد ظلت سفن الرقيق تمخر عباب الأطلسي طيلة فترة الاحتلال الأوربي، وحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن تجارة الرقيق عبر الأطلسي، استمرت حوالي 400 سنة، وقدر عدد ضحاياها ب 15 مليون شخص، دون أولائك الذين لقوا حتفهم أثناء الرحلات الطويلة.
ومع القرن الثامن عشر (18م) بدأت تظهر الحركات الاحتجاجية المناهضة للاستعمار، والتي من أشهرها مجموعات الكويكرز(جماعة الأصدقاء الدينية) حيث كان لها دورا قويا في توجيه الرأي العام إلى مناهضة تجارة الرقيق، والضغط على الدول المستعمرة من أجل إصدار قوانين تجرم التعامل بالرق، ونتيجة لذلك أصدرت بريطانيا قانون إلغاء تجارة الرقيق سنة 1807، ومنعته في جميع مستعمراتها سنة 1833، وأما فرنسا فقد ألغت الرق في عام 1848، وتم تجريمه في الولايات المتحدة الأمريكية 1808.
في نهاية القرن الثامن عشر(18م) ومطلع القرن التاسع عشر (19م)، تكاثفت الجهود الدولية لمناهضة الرق، خصوصا مع إعلان فينا لسنة 1815، حيث عقدت عصبة الأمم المتحدة المؤتمر الدولي حيث قررت إلغاء العبودية بشتى أشكالها، ومن الجدير بالذكر أن الاهتمام الدولي أصبح مركزا على أنماط حديثة من الرق، وذلك من خلال الاتفاقيات المناهضة لأنماط معينة من استغلال البشر، وتحديدا الاستغلال الجنسي، والعمل القسري (السخرة).
وبالنسبة للدول العربية فقد تم إلغاء وتجريم الرق متأخرا، ومرد ذلك خضوع الدول العربية للاحتلال الأوربي. وعلى المستوى الوطني فلم يحدث أي تحول اجتماعي يذكر مع ميلاد الدولة الوطنية الحديثة عهد بالاستعمار، ذلك أن “جل الذين تناولوا نشأة الدولة في موريتانيا اعتبروها تمثيلا سياسيا واجتماعيا لعلاقات القوة التي كانت سابقة عليها، وأنها -أي الدولة- أدت دور الضامن للنظام الاجتماعي، وخاصة الصلات الموضوعية مع الأرستقراطية التقليدية” هذه الوضعية أدت إلى ظهور حركات احتجاج وطنية ذات أيديولوجيات مختلفة، كحركة “تحرير وانعتاق لحراطين” التي ساهمت جهودها في إصدار الأمر القانوني رقم: 81-234 الصادر بتاريخ 9 نوفمبر 1981 والذي يعتبر أول تشريع يلغي الرق، ويجبر الملاك على تحرير عبيدهم مقابل تعويض من الدولة.
وسنحاول من خلال هذا المقال رصد المسار التشريعي الوطني لمعالجة ظاهرة الاستبعاد، من خلال التعريف بالاستعباد، والتعرض لمختلف المراحل التي مر بها، لإلغائه، وتجريمه، واعتباره جريمة ضد الإنسانية لا تتقادم، وإنشاء محاكم خاصة به، وتحديد يوما وطنيا لمناهضته، وإنشاء وكالة وطنية لمكافحة مخلفاته.
أولا: الإطار المفاهيمي لجريمة الاستعباد
يشمل مفهوم الاستعباد المفهوم التقليدي للاستعباد إضافة إلى بعض الممارسات الشبيهة بالرق، والتي اعتبرها جانب من الفقه تمثيلا للاستعباد في صورته الحديثة.
1- الاستعباد
لم يعرف المشرع الوطني الاستعباد في الأمر القانوني رقم: 81-234 الصادر بتاريخ 9 نوفمبر 1981، بيد أنه عرفه في المادة 2 من القانون رقم: 2007-048 بأنه: “ممارسة أي من السلطات المترتبة حق الملكية أو هذه السلطات جميعا على شخص فأكثر” ونفس هذا التعريف أقره القانون رقم:2015-031 في المادة 3.
وعرفته الاتفاقية الخاصة بالرق لسنة 1926 في مادتها الأولى بأنه” حالة أو وضع أي شخص تمارس عليه السلطات الناجمة عن حق الملكية كلها أو بعضها”
كما أكدت على التعريف السابق للاستعباد، الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة بالرق لسنة 1956 التي عرفت الاستعباد في مادتها السابعة على أنه: “وصف لحال أو وضع أي شخص تمارس عليه السلطات الناجمة عن حق الملكية”.
2- القنانة
لم يتعرض المشرع الوطني في الأمر القانوني رقم: 81-234 والقانون رقم: 2007-048 لتعريف القنانة، بينما عرفها في القانون رقم: 2015-031 في المادة 3 بأنها: ” وضعية أي شخص يكون ملزما بالقانون، او العادة أو الاتفاق، بالعيش والعمل على أرض تعود ملكيتها لشخص آخر وأن يقدم لهذا الأخير، مقابل أجرة أو مجانا بعض الخدمات المحددة بدون أن تكون له إمكانية تغيير وضعيته”.
كما عرفتها الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق لسنة 1956، على أنها ” حال أو وضع أي شخص ملزم بالعرف أو القانون أو عن طريق الاتفاق، بأن يعيش ويعمل على أرض شخص آخر وأن يقدم خدمات معينة لهذا الشخص، بعوض أو بلا عوض، ودون أن يمتلك حرية تغيير وضعه”.
3- إسار الدين
عرفت المادة 3 من القانون رقم: 2015-031 إسار الدين بأنه: “حالة أو وضعية ناتجة عن التزام مدين بأن يقدم من أجل ضمان دين خدماته الشخصية أو خدمات شخص له سلطة عليه، إذا كان القيمة العادلة لهذه الخدمات غير مخصصة لتغطية هذا الدين او إذا كانت هذه الخدمات ليست لها مدة محددة وطابع معروف”.
عرفت الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق لسنة 1956 إسار الدين على بأنه ” الحال أو الوضع الناجم عن ارتهان مدين بتقديم خدماته الشخصية أو خدمات شخص تابع له ضمانا لدين عليه، إذا كانت القيمة المنصفة لهذه الخدمات لا تستخدم لتصفية هذا الدين أو لم تكن مدة هذه الخدمات أو طبيعتها محددة”.
4- العمل الجبري (السخرة)
عرفت المادة 5 من القانون رقم: 2004-017 المتضمن مدونة الشغل العمل الإجباري بأنه العمل الذي “يطلب بواسطته عمل أو خدمة من شخص تحت تهديد توقيع عقوبة ما، ولا يقدمه هذا الشخص بمحض إرادته”
كما عرفته الاتفاقية رقم 29 بشأن العمل الجبري أو الإلزامي-والتي صادقت عليها موريتانيا-في المادة 2 بأنه: “كل أعمال أو خدمات تغصب من أي شخص تحت التهديد بأي عقوبة ولم يتطوع هذا الشخص بأدائها بمحض اختياره”.
واعتبر القانون رقم: 2003-025 المتضمن معاقبة الاتجار بالأشخاص في مادته الأولى أن العمل الإجباري يعتبر من مشمولات جريمة الاتجار بالأشخاص حيث نصت هذه المادة على أن الاستغلال يشمل “العمل بدون أجر والعمل أو الخدمات الجبرية وكذلك التصرفات المشابهة”. كما اعتبرته المادة 3 من القانون رقم: 2015-031 من مشمولات جريمة الاستعباد بقولها “يشمل الاستعباد. كل أنواع العمل الإجباري”.
كما نصت المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المنشور في الجريدة الرسمية، عددها رقم: 1326 لسنة 2014 على منع السخرة بقولها: “لا يجوز إكراه أحد على السخرة، أو العمل الإلزامي”
5- الأعراف التي تجعل من المرأة أو الطفل محلا للاستغلال
تستند هذه الممارسات اللاإنسانية لبعض الأعراف المجتمعية القديمة، وقد عبر عنها المشرع الوطني في المادة 3 من القانون رقم: 2003-025 بعبارة “الوضع” حيث نصت على أن: “الوضع: ممارسة من خلالها:
– يوعد بإعطاء، أو تزويج امرأة، دون أن يكون لها الحق في الرفض، مقابل عوض نقدي أو عيني يدفع لأهلها، أو وليها، أو أسرتها أو أي شخص أو مجموعة من الأشخاص.
– تعطى امرأة أو يحاول إعطائها بعوض أو بصفة أخرى من طرف زوجها أو أسرتها.
– توريث امرأة عند موت زوجها لشخص آخر.
– يتم إعطاء طفل سواء من طرف أبويه أو أحدهما أو من طرف وليه للغير بمقابل أو بدونه من أجل استغلاله بدونه أو إخضاعه للعمل”.
كما حدت الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق لسنة 1956 بعض الممارسات التي تصنف على أنها شبيهة بالرق وهي:
– الوعد بتزويج امرأة، أو تزويجها فعلا، دون أن تملك حق الرفض، ولقاء بدل