أيها المواطنون الصالحون: أنتم المشكلة / تأليف فاضل ولد محمد الأمين
لم يكن القول باتهام الأطباء بأنهم هم السبب في وفاة مرضاهم بالقول البسيط، ولم يكن الأطباء ليقبلوا بتلك التهمة، ولذلك فقد تعرض الطبيب “أجناتس سيملويس” لهجوم شديد من زملائه الأطباء، فرُفض طلبه بغسل اليدين، وطُرد من المستشفى الذي كان يعمل به، رغم النتائج الإيجابية الكبيرة التي تتحقق عند الالتزام بغسل اليدين، وتسبب له ذلك في حالة غضب شديد، وإصابة بالاكتئاب، وأصبح سلوكه عدوانيا، وألقاه أحد زملائه في عنبر المجانين بأحد المستشفيات، فتشاجر مع الحراس، وأصيب بجرح في يده تحول إلى غرغرينا، وكان ذلك هو السبب المباشر في وفاته.
تم الاعتراف بجهود الطبيب “أجناتس سيملويس ” بعد قرن من وفاته، فلقب بمنقذ الأمهات، وثبت اليوم لدى الجميع أن غسل اليدين وتعقيمهما يؤدي إلى ممارسة طبية أكثر أمانا، ويحدُّ من نقل العدوى، ويقلل من الوفاة الناتجة عن نقل الجراثيم من الطبيب إلى المريض.
هذا السرد التاريخي لبعض تفاصيل حياة طبيب وصف زملاءه الأطباء بأنهم هم المشكلة، أردتُ من خلاله أن أبين أنه في بعض الأحيان قد تأتي المشكلة ممن كنا نتوقع منهم حل تلك المشكلة.
فلنترك أوروبا في القرن التاسع عشر، ولنتحدث عن موريتانيا في العام 2023، ولنترك الطب ولنتحدث في السياسة، فإذا ما قمنا بذلك، فسيكون بإمكاننا ـ وعلى طريقة الطبيب المَجَري ـ أن نقول لمن يرى نفسه مواطنا صالحا: أنتَ هو المشكلة!
نعم إن المواطنين الصالحين في هذه البلاد، إذا لم يحاولوا أن يتحولوا إلى مواطنين مُصْلِحين وإلى نخبة مُصلحة سيصبحون هم المشكلة.
وعملية التحول هذه من نخب صالحة إلى نخب مُصلحة، تتطلب تجاوز بعض نقاط الضعف التي عُرِف بها أغلب من يعدُّ نفسه مواطنا صالحا، ومن أهم نقاط الضعف تلك، يمكننا أن نذكر:
1 ـ تتمثل نقطة الضعف الأولى التي تعانيها “النخب الصالحة” في استقالة هذه النخب من قضايا الشأن العام، وقبولها لمواصلة التفرج على ما يجري في البلد دون فعل أي شيء. وعلى العكس من ذلك فإن أولئك الذين يصنفون ضمن النخب الانتهازية أو الفاسدة لا يقبلون بالتفرج، وإنما يتحركون هنا وهناك بحيوية ونشاط، ليس من أجل إصلاح البلد، وإنما من أجل إفساده؛
2 ـ فشل هذه النخب الصالحة ـ والتي هي نخب في منتهى الخمول ـ في إطلاق مبادرات إصلاحية، أو في خلق عناوين سياسية أو جمعوية تمكنها من توحيد الجهود في عمل سياسي أو جمعوي هادف يعود بالنفع على الوطن. وعلى العكس من ذلك فإن أولئك الذين يصنفون ضمن النخب الفاسدة يعرفون بالحيوية والنشاط، والقدرة على إطلاق المزيد من المبادرات ذات “الضرر العام”؛
3 ـ فشل هذه النخب الصالحة في خلق مساحات للعمل المشترك، فمن الصعب أن تجد عشرة من “المواطنين الصالحين” يخلقون مساحة للعمل المشترك فيما يتفقون عليه، وكأنهم ينتظرون تطابقا تاما في الآراء والمواقف حتى يعملوا معا، وهو الشيء الذي لن يحدث أبدا، أو كأن كل واحد منهم يعتقد أنه يكفيه من خدمة البلد أن يبقى مواطنا صالحا، وأن لا ينخرط فيما يقع من فساد وإفساد. يا أيها المواطن الصالح إن صلاحك لا أهمية له، ولن يفيد المجتمع، إذا لم تستطع أن تتحول إلى مواطن مُصلح، وإذا لم تخلق مساحة مشتركة مع مواطنين مصلحين آخرين بهدف تنسيق جهودكم لخدمة المجتمع. وعلى العكس من النخب الصالحة، فإن النخب الانتهازية والمفسدة تمتلك قدرة كبيرة على خلق مساحات للعمل المشترك دفاعا عن مصالحها الضيقة، واستمرارا في “جهودها الجبارة” في إفساد المجتمع؛
4 ـ الانسحاب المبكر من معركة الإصلاح. هناك قلة من المواطنين الصالحين تقبل بالنزول إلى الميادين من أجل الإصلاح، ولكن هذه القلة القليلة من المواطنين الصالحين إذا لم تشاهد ثمار جهودها تنضج في وقت مبكر، وإذا لم تجد من يقدر تلك الجهود، فإنها تسارع إلى الانسحاب من معركة الإصلاح. هذه الطائفة مشكلتها قصر النفس النضالي، ومن المعلوم أن معركة الإصلاح تحتاج إلى نفس نضالي طويل.
إن اكتفاء النخب الصالحة بالتفرج على ما يحدث في البلد دون فعل أي شيء، وسرعة انسحاب القلة القليلة من هذه النخب الصالحة التي تقبل بالنزول إلى الميادين عند خسارة أول معركة من معارك الإصلاح، إن كل ذلك ترك هموم البلد ومشاكله لنخب انتهازية فاسدة ومفسدة تضع مصالحها الخاصة في أعلى سلم الاهتمامات، ومصلحة الموالاة إن كانت موالية أو مصلحة المعارضة إن كانت معارضة في الرتبة الثانية في السلم، في حين تكون المصلحة العليا للبلد في الرتبة الثالثة، أي في أدنى رتبة.
إن البلد بحاجة اليوم ـ وأكثر من أي وقت مضى ـ إلى نخب صالحة ومُصلحة، تضع المصلحة العليا للبلد في الرتبة الأولى في سلم الاهتمامات، ومصلحة الموالاة إن كانت موالية، والمعارضة إن كانت معارضة في الرتبة الثانية، في حين تكون المصالح الشخصية الضيقة في الرتبة الثالثة، أي أدنى رتبة في سلم الاهتمامات.
تنبيهات :
1 ـ سئلتُ كثيرا عن السبب في اختيار هذا العنوان للكتاب، ولتكرر السؤال قررتُ أن أعيد نشر المقال الذي اخترتُ عنوانه ليكون عنوانا فرعيا للكتاب؛
2 ـ هناك عنوانان للكتاب، والعنوان الأصلي للكتاب هو “في نقد المصلحين”، وهذا عنوان غير دقيق، وقد اخترته تجنبا للدخول في نقاش بلا أول ولا آخر ، فالعنوان الذي كان يجب أن يكتب في مقدمة الكتاب هو “في نقد الصالحين”، فالنقد موجه للصالحين، لأنهم لم يستطيعوا أن يكونوا مصلحين، والكتاب قد شخص الحالة المرضية للمواطنين الصالحين، بأنهم “صالحون بلا فعل إصلاحي”.
3 ـ هذه فقرة من الكتاب من المهم أن تكون من بين التنبيهات الملحقة بالمقال: “قد يستغرب البعض منكم أن أخصص أول كتاب في هذه السلسلة التي تنظر للإصلاح في موريتانيا لنقد المواطنين الصالحين، والذين لم يتمكنوا من أن يكونوا مصلحين، أرجو أن لا تستغربوا ذلك، فهذا أمرٌ مقصودٌ في حد ذاته، وهو يهدف إلى ما تهدف إليه إحدى القصص المتداولة في موروثنا الشعبي، والتي تتحدث عن شخص بدأ بمحاولة حلب تيس أو كبش ليؤكد للنعاج أن الدور قادم عليها لا محالة. لقد بدأتُ في هذا الكتاب بنقد المواطنين الصالحين، وذلك حتى يعلم غيرهم أن الدور قادم إليهم، وأن نصيبهم من النقد سيأتيهم كاملا غير منقوص. ”
حفظ الله موريتانيا..