فقر الدولة بين النرجسية والواقعية / د. محمد أنس ولد محمد فال

يقال إن الغنى غنى النفس، وشعبنا غني بأخلاقه وقيمه ومعارفه التي ورثها كابرا عن كابر؛ وغني كذلك بثرواته الطبيعية إن توفرت الشروط.

لقد صدق فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حين قال إن بلادنا فقيرة، وتشهد على ذلك التقارير الأممية والأوروبية، والأمر معلوم ومفهوم لدى كل متأمل محقق.

وبالرغم من أن الرئيس كان في لقاء اجتماعي مع أبناء إحدى جالياته في الخارج، وهو اللقاء الذي عادة ما يكون عفويا وأقرب للم الشمل العائلي، ولا يفترض أن يكون مسجلا أصلا، أحرى أن يسرب، فالمجالس أمانات ولكل مقام مقال، و واضح من السياق، وحضور عنصر الانفتاح ونبرة الصدق مع أشخاص غالبا ما يؤثر عليهم سياق الغربة والغرب، فينسون واقع الوطن، وترتفع عندهم سقوف الأحلام، وزفرات التحرر.

بالرغم من كل ذلك إلا أن فخامته قال ما قال عن وعي وبصيرة، ذلك أنه يتخذ من الصدق منهجا، ومن الصراحة مع شعبه أسلوبا، وتؤكد ذلك شواهد الماضي القريب حين وصف في لقاء صحفي واقع الثروة الوطنية وأكد حاجتها للترشيد بحكم القلة أولا و وجوب مكافحة الفساد ثانيا.

الحق مر وشعبنا لم يعتد على سماعه من قبل القيادة، ولكن الصدق منجاة، ومن حق الحاكم “تربية” شعبه على الصراحة والصدق والإنصاف، ليس تهربا من المسؤولية، وإنما ترسيخا “للواقعية” والنظر إلى الإكراهات إلى جانب الطموحات، والتعود على أن المقدمات الصحيحة هي وحدها التي تقدم نتائج صحيحة، وغير ذلك مؤذن بخراب الإنسان قبل العمران.

لا يمكن إلا أن نكون “دولة فقيرة” ما دامت ثرواتنا محدودة وطريقة الاستفادة منها لا تتعدى تصديرها في شكل خامات لا يملك أصحابها وسائل الإنتاج (وتبرز أهمية التعليم والبحث العلمي هنا لتحقيق كفاف صناعي يساهم في مواجهة احتكار الغرب لوسائل الإنتاج الكبرى).

لا يمكن إلا أن نكون “دولة فقيرة” ما دامت “حتمية الغنى ” تعشعش في أذهاننا دون أن نجد آليات حقيقية لتجسيدها واقعا ملموسا.

لا يمكن إلا أن نظل دولة فقيرة ما دام الكبر والكسل والجهل، وغيرها من الأمراض الإجتماعية تتناسل في بلدنا، كابحة جماحة التنمية ومعيقة بناء الوطن.

لا يمكن إلا نظل دولة فقيرة ما دام شعبنا يمتلك أراض زراعية شاسعة، وأمواها سطحية وجوفية معتبرة (أهمها نهر السينغال) ولا تجده يعرف إلى الفلاحة سبيلا.

لا يمكن إلا أن نظل دولة فقيرة ما دامت الصناعات المرتبطة بالثروة الحيوانية عندنا منعدمة أو شبه منعدمة، وما دمنا نتعامل معها بشكل بدائي لا يتعدى “ريعه” في الغالب المحيط العائلي لأسر محدودة، في كل قرية أو تجمع سكاني، أما مصطلحات كالتكنولوجيا والبحث العلمي والتهجين فهي نشاز في قاموس المستثمرين فبله المنمين.

لا يمكن إلا أن نظل دولة فقيرة ما دامت ثروتنا السمكية نهبا للأجانب بعد أن تنكبها أبناء الوطن جهلا وعجزا، بل بطرا وكبرا.

لا يمكن إلا أن نظل دولة فقيرة ما دام مطلب العمل عندنا يقتصر على الدولة والدولة فقط، ولا يرضى حامل شهادة بدخول القطاع الخاص وخلق المنافسة والإبداع (نعم نمارس التجارة ولكن ليس بالمعنى العصري ، بل بأساليب أولية وفوضوية، و لا تعرف سوى مجال أو مجالين للوصول إلى الربح السريع والغنى العاجل).

لا يمكن إلا أن نظل دولة فقيرة ما دامت أحلام اليقظة تعمينا عن الواقعية، ومنطق الطاووس “النرجسي” يغلب عندنا منطق بقية الطيور التي تغدوا خماصا وتروح بطانا.

لا يمكن إلا أن نظل دولة فقيرة ما دامت نفس أساليب الخطاب المعارض الإنشائية تجتر عندنا أسطوانات مشروخة عن غنى الدولة وفقر الشعب، أخنى عليها الزمن، و توهمها أصحابها ثم توهموها حتى صارت عندهم حقيقة راسخة.

أخيرا لا يمكن إلا أن نظل دولة فقيرة ما دمنا لا نصدق أن الرئيس لا يمتلك عصى سحرية، وأن تجاوز الغنى يحتاج تكاتف الجهود وتغيير العقليات، وشعبا يؤمن بالعمل الجاد وينبذ الكسل ظهريا، ويعمل أن المسؤولين مشتركة، فالخطاف (طائر) لا يصنع الربيع لوحده، كما يقول المثل الفرنسي (Une hirondelle ne fait pas le printemps )؛ أن تغيير الواقع يبدأ بتغيير الأنفس “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”؛ولعل ذلك يبدأ بالنزاهة مع النفس، و تنقية الضمير، ومحاربة الفساد الذاتي، و”العقلية” الجمعية المطبعة معه، سبيلا إلى إنفاذ العدالة إزاءه،  ومحاربته بالمعنى القانوني المنشود.

نعم لقد صدق الرئيس وصدقه الواقع، لكن الإنجاز ممكن، وتجاوز الخلل متاح إن أردناه وتعاونا عليه بالطرق العلمية والعملية المتدرجة والحازمة، فهل إلى إرادة و تعاون من سبيل؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى