الشنافي : ذكر طيب وذكرى عطرة”
بقلم الكاتب محمد خيشنا
عديدة هي التدوينات التي طالعتنا منذ يومين وكلها تستذكر بإجلال الذكرى العاشرة لرحيل عالم موسوعي ومؤرخ متبحر و ناسك زاهد أضنى جسده التبتل في محراب القراءة والرصد و التأمل ؛
فهو العارف بالمجال والأنساب وبالإنسان و اللسان .
إنه صاحب الذكر الحسن والثناء الجميل المستعصم عن الكثير من لغو أهل زمانه وخوضهم بسلطان المعرفة والحكمة كما أنه المتدثر دونهم بمهابة المناقبية الأخلاقية والوقار .
أقصد هنا بالطبع المغفور له محمد ولد مولود ولد.داداه طيب الله ثراه .
للأسف لم يكن لي ذلك الاحتكاك القريب أو الممتد زمنيا بالفقيد مما يسمح بمجاراة كتابة من كتب بعمق في تاريخه منقبا في ثنايا تجربته وحسن شمائله و طرائفه الجميلة، ، فضلا عن ثراء اسهاماته الفكرية والمعرفية التي للأسف لم تر ، بعد ، النور في إصدارات تنفع بل تسعف الأجيال الجديدة ببعض من عصارات أو خلاصات جهد بحثي عظيم أمضى فيه صاحبه عمرا مديدا وهو من هو ذكاء وسعة أفق
وطموحا ومثابرة !
فأكرم به من رجل متفرغ و متفرد لما جمع الله له و فيه مما تفرق كثيرا في غيره.
و قريبا من غروب شمسه المتوهجة لعقود تعرفت فقط على ذلك المرجع الشامل والبحر اللجي منذ أواخر سنة 2005
و لاحقا حتى وفاته – رحمه الله – ضمن فرص قليلة لكنها جد مفيدة ، أغلبها عابر إلا واحدا كان مرتبا له في منزله .
لقد كنت دائما أشعر معه كما لو أنه يحيطني بشيء من الحنو والعناية كمثل العاطفة التي تلفاها من أصدقاء الوالدين الذين درجت صغيرا على أيديهم .
إنها بالتأكيد عاطفة إسقاط لا استحقاق .
واللافت أن ذلك يكون منه دوما حتى في المجالس العامة التي فيها تتزاحم الناس عليه و الكل يستجدي منه اهتماما
أو حديثا .
لن أخوض كثيرا فيما ينسب إليه البعض من أنه صاحب مفهوم أو مقولة ” المدرسة الكنتية ” أو أنه كان عنوانا لذلك أو موجها نحوه للكثير الدارسين و الباحثين كمثل أخيه عبدالله أو الدكتور السوداني المرحوم عزيز بطران…إلخ
غير أني و مع قدر من الحرج في الحديث عن ما له صلة ذاتية أو عائلية سآتي على جزء مما كان يحرص هو شخصيا على أن يكون موضوع حديثه في كل مرة مما يخص الأوائل قريبهم أو بعيدهم ومن ذلك :
أولا – في تلك الزيارة الوحيدة له بالمنزل وكنت مرفوقا بمن رتب اللقاء فقد بادرني قائلا :
أتدري لماذا أقدر أو أنا معجب على الخصوص بالشيخ سيد المختار الكنتي
و بإبنه الشيخ سيدمحمد الخليفة ؟
ثم استطرد مجيبا نفسه : لا تعتقد أن ذلك بسبب علمهم أو كراماتهم أو صلاحهم
أو ولايتهم وإنما لأن هذه الأرض لم يخرج منها أحد عاقل بمثل درجة ما كانا عليه ! ( اعتقد أن عباراته كانت هكذا بالضبط أو قريبا منه .)
كان ذلك استفتاحا مفاجئا لي من طرفه
وحتى أني وجدته غير نمطي بالمرة و في بداية أول لقاء لكنه مع ذلك أسهم في إذابة كل جليد بسرعة و كذلك رفع كل حرج .
ثانيا – وخلال نفس اللقاء حكى لي أن
” حبه ” وهي كنية سيدامحمد ولد حمادي ولد سيدي باب أحمد ولد الشيخ سيد المختار الكنتي نزل ب “حلته’ أرض بوتلميت قاصدا باب وكان له حاجة في أشياء منها البارود . و قد ألفى الشيخ سيديا بابه و صنوه سيدالمختار (أباه) في إدويره (لكصيبه 2) /قبالة بودور السنغالية .
و كان ل “حبه ” “حولي ” حصان متميز يدعى ” زكفده” ولما علم الأمير بياده (أحمد سالم ولد إعل ) بما عليه الحصان من الجودة أرسل يريده .
قال الشنافي أن “حبه ” قال هذه الأرض التي يطلب فيها “زكفده” ما تسكن و بادر ، دون انتظار ، بالرحيل مبتعدا ب “حلته” نحو الشرق جهة تكانت …….
قال لي أحد أحفاده و كان يسكن في مدينة انواذيبو و هو الخليفه ولد محمد ولد الخليفه ولد حبه أن جده “حبه ” في عام تال وكان يخيم ما بين تيريس وآدرار ومعه الكثير من أهل الإبل من الحوض الذين انتجعوا في ركابه فقد عمد إلى إرسال “زكفده ” للأمير التروزي وأرسل أيصا حصانا آخر لأمير آدرار (أحمد ولد سبدأحمد؟) و ذلك في تقدير منه لصون مصلحة من معه من أهل الحوض.
و “حبه ” هذا هو أحد كبار الصالحين والحكماء المدبرين المعروفين و كان ممن أمتلك ألفا من الإبل في زمنه وله “مدرك” من الخيل العتاق تدعى ” الحوات ” . وكانت
“حلته ” شبه مسلحة للدفاع الذاتي مع أنه كان يعتزل الانخراط المباشر في النزاعات البينية لذلك الزمان .
كانت الحماية الحقيقية المعول عليها هي بركته ومكانته الروحية وشبكة تحالفاته على طول نجعته الطويلة من الحوض وحتى “أوسرد ” في سرة “تيرس” .
و تعرف العشيرة المنبثقة من تلك “الحلة ” الآن بإسم ” أهل الشيخ ” وهم يسكنون أساسا في بلدية ” أم لحياظ ” حيث عمدتها الحالي هو الرمز التقليدي للعشيرة وهو الشيخ بادي ولد الخليفة وهو أحد أحفاده .
ثالثا – يقول المرحوم محمد ولد مولود ولد داداه أنه لما كان حاكم دائرة لعيون (Commandant cercle Aioun) أراد أن يشرف بنفسه على حملة تلقيح ضد “الجدري”ضمن سكان البدو بمنطقته و الذين لا يزال بعضهم يذهب إلى “تيرس” ويرجعون أحيانا بعدوى ذلك المرض من تلك المناطق .
فبالنسبة له لم يكن الأسبان خارج المدن يهتمون كثيرا برعاياهم من البدو كما يفعل الفرنسيون ! ؟
ثم حكى لي أنه لما جاء بالفريق الطبي إلى “الحلة” وكانت الناس في ذلك الزمان مسكونة بالذعر الشديد من التلقيح وتحرص على تفاديه بأي وسيلة . يقول الشنافي فقد خاطبت الزعيم التقليدي حينها الخليفة ولد الدده بأن يجمع لي أولا كل “بنات الشيخ” ليبدأ بهن التلقيح حتى لا يطمع أي أحد أبدا بإمكانية الافلات .
و قد نجح ذلك التدبير تماما.
كما يذكر الأكابر ممن أدركهم البعض خصوصية ذلك الحاكم الذي يظل يمارس عمله الإداري كما يفعل النصارى حتى إذا حل الليل أخرج أوراقه و طفق يكتب الشهادات والحكايات من المسنين وأصحاب السير على ضوء النار .
وهناك المزيد والمزيد من قصص مماثلة مما نضرب عنه صفحا .
رابعا : عندما تطرق الحديث إلى أحد مواضيع الاهتمام في ذلك الزمان قال لي الشنافي بروح دعابة مصبوغة بالاستقراء أنه لما ألتقى ذات مرة بأحد أعضاء البوليساريو من الأرومة “الرقيبية” الكريمة فقد بادر محاوره بالسؤال : آه لو كنتم قبلتم أن تكونوا وموريتانيا شيئا واحدا ، على الأقل لربما كنتم “ستحظرون” في الانقلابات هنا ؟ وضحك ملء شدقيه .
كان القصد واضحا وهو إمكانية حكم موريتانيا نفسها.
بهذا القدر نكتفي راجين من الله العلي القدير أن يحشر الفقيد في زمرة الصالحين وأن يتغمده بواسع رحمته وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .