مجسم “الكتاب”.. هدم آخر ما تبقى من إرث نظام ولد الطايع
زحمة لا تتوقف في ساعات الصباح الأولى عند ملتقى الطرق المعروف شعبيا باسم (كرفور مدريد)، كان ذلك مشهدًا مألوفًا من مشاهد مدينة نواكشوط، فيما كان مئات الموريتانيين مصدومين، وهم يستعدون ليوم عملٍ روتيني؛ لقد اختفى بين عشية وضحاها أشهر مجسم حجري في العاصمة، تلك الكتب المتراصة منذ أكثر من عقدين من الزمن، شاهدة على “حملة العلم والمعرفة” التي أطلق الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، لمحاربة الأمية مطلع الألفية الثالثة.
“مولود” رجلٌ خمسيني، ملامحه نحتها الزمن وهو يجلسُ بجوار أحد المنازل القريبة من ملتقى الطرق، يراقب العابرين من أمامه، وأصحاب سيارات الأجرة يصدحون بأصواتهم الجهورية بحثا عن ركاب.
كان يحدق “مولود” يتابع التفاصيل اليومية التي لا تكاد تتغير منذ عقود، حريص على ألا يفوت أي شيء من التفاصيل، قطعنا خلوته وسط الضوضاء، ولحظات التأمل التي كان سادرا فيها، سألناه عن رأيه في اختفاء مجسم “الكتاب” بملتقى مدريد.
ألقى نظرة تجاه ملتقى الطرق والفراغ الذي خلفه غياب المجسم، أطلق نصف ابتسامة ثم قال: “تفاجأت حين جئت إلى هنا صباح يوم الأحد من تحطيم المجسم، كأنه تبخر”.
يفترش “مولود” الأرض، ليعرض بضاعته البسيطة والمتنوعة، من مقارض لقص الأظافر، ومفكات براغي، وأشياء أخرى كثيرة، إنه يمارس هذه التجارة منذ عقود.
عاش ثلث قرن في نفس المكان، كان شاهدا على كل الأحداث التي كان “كرفور مدريد” مسرحا لها؛ مظاهرات ووقفات احتجاجية ومسيرات داعمة لهذا النظام أو ذاك، ومعارك تافهة بين مواطنين ضغطتهم تفاصيل الحياة الصعبة، وصولًا إلى مطاردة أعوان البلدية للباعة الصغار.
يرى “مولود” أن هدم مجسم الكتاب “خطأ” ما كان للدولة أن تقدم عليه، مؤكدا أنه “جزء من ذاكرة العاصمة نواكشوط، وأحد معالمها الشهيرة”.
ولكن هدم المجسم كان من أجل تشييد مشروع لطالما حلم به الموريتانيون، وهو جسر سيخفف ضغط الزحمة المرورية، ويمنح مدينة نواكشوط وجهًا يليق بها.
الرمزية الخاصة.
إن هدم النصب الذي كان عبارة عن كتب متراصة عموديًا، أعاده إلى الواجهة من جديد، فعادت النقاشات إلى الظروف التي شيد فيها، إذ يتذكر أغلبُ الموريتانيين حملة العلم والمعرفة ونشيد الكتاب، وكيف انخرط كافة السياسيين والوجهاء الاجتماعيين ورجال الأعمال في الترويج للكتاب، كسلاح لمواجهة الأمية، حين أمرهم ولد الطايع بذلك.
وهكذا، يعد مجسم الكتاب آخر ما تبقى من إرث الرئيس الأسبق الذي حكم موريتانيا لأكثر من عقدين من الزمن (1984 – 2005)، فكان الشاهد الوحيد على هذه الحقبة.
لقد كانت حملة “الكتاب” هي آخر الحملات الكبرى التي خاضها ولد الطايع، رصدت لها مبالغ طائلة، ورافقتها حملات توعية وإعلامية كان تشييد مجسم “الكتاب” أبرز إنجازاتها.
رحل ولد الطائع إثر انقلاب عسكري عام 2005، فتبخرت معه فصول محو الأمية، والمكتبات التي أقيمت للمطالعة، ولم يتبق من كل ذلك إلا كتلة الخرسانة الصلبة المنتصبة في قلب نواكشوط.
اليوم تلاشت هذه الكتلة.
مخاوف وهواجس
لم يكن هدم مجسم الكتاب هو التغير الوحيد الذي شهدته منطقة “ملتقى مدريد”، فقد بدا الطريق الجنوبي من الملتقى فسيحًا، فقد اختفت من جنباته مئات السيارات المعروضة للبيع، حين قررت السلطات ترحيل وكالات بيع وتأجير السيارات التي ظلت لعقود تحتل مساحات كبيرة من المنطقة.
تقول السلطات الموريتانية إنها اخلت المنطقة، تمهيدا للبدء في أشغال تشييد الجسر التي من المنتظر أن تنطلق فيه نهاية الشهر الجاري.
بل إن السلطات لم تكتف بترحيل وكالات بيع وتأجير السيارات، وإنما أبعدت أيضًا عشرات الباعة الصغار، الذين كانوا ينتشرون على جنبات الطرق، يبيعون الخضار والفواكه.
“مولود” الذي تعود على المكان، يشعر بالقلق من اقتراب ساعة الرحيل، ويقول إنه لم يفكر حتى الآن في مكان بديل لعرض تجارته فيها، مؤكدا أن السلطات لم تحدد الآجال التي يجب فيها الرحيل.
ليس هدم المجسم وترحيل وكالات السيارات هو أكبر تغير ستشهده المنطقة، وإنما التغير الأكبر هو ذلك الذي سيمس مئات المواطنين من الباعة وأصحاب سيارات الأجرة الذين يرون في الملتقى مورد رزق يعيلون منه عائلاتهم، ذلك ما يخشاه “مولود” ورفاقه.
لقراءة الأصل أضغط هنا