شذرات مطمورة من التاريخ المروي في الحوض : بقلم الكاتب محمد شيخنا

من ترى صاحب الفضل في اكتشاف أطلال مدينة "كومبي صالح " الأثرية ؟ Bonnel de Meziére هل هو أم محمد ولد إياي ؟

منذ نحو قرن ونيف من الزمان خرجت “كومبي صالح” من تحت ركام الرمال وظلام النسيان لكن لا يزال غائبا إلى اليوم أو ربما مغيبا على الأصح أحد عناصر قصة اكتشافها المذهلة .
و مدينة ” كومبي صالح” هي عاصمة امبراطورية إفريقية عظيمة بدأت وثنية ثم بدأت تكون “مسلمة” مع نهاية القرن الثامن الميلادي وقد سرى حكمها على عديد شعوب الفضاء الساحلي (بيضا وسودا على السواء ) و الذين تعايشوا في ظلها بانسجام وألفة قرونا مديدة .
و الامبراطورية المقصودة هي بالطبع مملكة “غانة” الأسطورية(السوننكية/المالينكية وقامت ما ببن القرن 3 و 13م) والتي اختار إسمها الخالد عند الاستقلال لتكون علما على بلده المناضل ” الأفريقاني panafricaniste ” و الزعيم الثوري انكوامو نيكروماه Kwame Nkurmah بدلا من الإسم الاستعماري “ساحل الذهب Gold Coast ” .
لم يكن اختيار الزعيم نيكروما للإسم مدفوعا ، بالضرورة ، لأن بلده كان قد خضع لحكم تلك الإمبراطورية و إنما هو من تجليات عمق الشعور بالهوية الإفريقية لديه والرغبة في الإتكاء على الموروث التاريخي المجيد للقارة .
و ربما نفس الشعور هو الذي دفعه أيضا إلى تسمية عملة بلده بال ” Cédi” وهي الكلمة العربية ( سيدي ) التي عرفها من زوجته المصرية فتحية رزق .
السردية الاستعمارية السائدة عن اكتشاف المدينة متاحة على الإنترنت و ستكون بعض من روابطها مرفقة .
وهنا نصل إلى بيت القصيد و السؤال المهم : كيف كانت حقيقة اكتشاف المدينة وما هي ملابسات ذلك ؟
قديما كانت معلومات الأوروبيين مشوهة عن إفريقيا وتكتنفها أحيانا الأساطير حيث تولد لدى الكثيرين منهم انطباع خاطئ
و سائد مع ذلك بأن تراب بعض مدن الداخل الإفريقي يكاد يكون ذهبا.
وهذا ما كان يفسر سر تسابقهم مطلع القرن التاسع عشر للوصول أولا لمدنية مثل “تمبكتو العجيبة”.
وقد كسب الرهان ، كما هو معروف، الفرنسيRéné Caillé (ولد كيجه النصراني) الذي وصلها الأول على الرغم من كون البريطاني الماجور لينغ Major Laing( المدعو الريس ) قد مات قبله بأزواد في سبيل الظفر بذلك ” الشرف ” .
كما زار المدينة بعده مبعوث بريطاني آخر شهير هو المستكشف هنري بارث (عبدالكريم /ألماني الجنسية ) والذي راسل على إثر مروره بها بإسم حكومة صاحبة الجلالة فكتوريا اللورد كلارندون رئيس وزراء بريطانيا العظمى الخليفة الشيخ سيدالبكاي يشكره فيها على حسن صنيعه مع “بارث” ويعرض عليه الصداقة
ويدعوه حتى لزيارة لندن .
وإثر مؤتمر برلين كانت أيضا فرنسا أول قوة أوروبية استعمارية تستولي على المدينة (1894/1893) رغم ما لقيت في ذلك من عنت .
وبعد وفاة الأمير محمد المختار ولد محمد محمود (فدار ) انفتح أمام فرنسا الحوض فاستولت على مدينة “ولاته ” وبنت فيها سنة 1912 م حصنا لا زال قائما إلى اليوم .
لم تشغل السلطة الاستعمارية أولوية الاهتمام بترتيب الأوضاع و ترسيخ الأقدام في منطقة الحوض “الآهلة” و لا سيما مع بؤر المقاومة الوليدة فيها و تلك القادمة من شمال موريتانيا المضطربة بل أنها باشرت من فورها عبر بعثاتها العلمية و علمائها للآثار في البحث عن مدينة “كومبي صالح” عاصمة أمبراطورية غانة أوإمبراطورية الذهب و بلد الملك منسا موسى أغنى رجل في التاريخ و الذي كان حاكم أمبراطورية “مالي” الإسلامية وريثة مملكة “غانا” على الإقليم.
و سيصل الفرنسيون إلى مبتغاهم دون تأخير وفي غضون أقل من عامين .
ففي سنة 1913م تم تحديد الحيز المكاني
(La localisation )للمدينة.
و في سنة 1914 كان اكتشافها (La découverte ) بواسطة الفرنسي” بونيل دمزيير” Bonnel de Mezière كما يقول الفرنسيون و كما هو متداول و منشور عالميا .
ومن بعد ذلك توالت الحفريات في الموقع في سنتي 1939م و 1960م .
و حاليا يوجد الموقع مسجلا منذ 2001 م على اللائحة الإرشادية(indicative) لليونسكو.
بجانب هذه الرواية الرسمية الاستعمارية حول قضية اكتشاف المدينة هناك قصة محلية أخرى أهلية تكميلية أو حتى بديلة حول ملابسات الاكتشاف وصاحب الفضل فيه .
توجد روايات شفوية حول هذه القضية متوارثة عبر الأجيال وهي مطردة بل متطابقة في خطوطها العامة و الكثير من تفاصيلها.
وخلاصة فحوى تلك الشهادات هي ما يلي :
كانت السمعة العالمة لمدينة “ولاته” مسألة معروفة لدى الفرنسيين .
لذلك حاولوا التقصي لدى من له معرفة او معلومات بغية الاهتداء على مدينة “كومبي صالح” المندثرة.
وكانت الخلاصة هي نصيحة قدمت للفرنسيين بالتقصي عن الموضوع بطرق غير تقليدية كعلم “التربيع ” الذي هو علم من علوم الأسرار يهتدى به على الكنوز وتستخرج بواسطته.
فعمد الفرنسيون أولا إلى الشيخ ولد عابدين لمكانته الدينية البارزة لكنه اعتذر لهم عن ذلك لأسباب خاصة به شرحها لوسيطهم لكنه وجههم لأحد أبناء عمومته وهو علم من أعلام تلك الفترة يدعى محمد ولد إياي . (هناك من يقول أن العلماء الولاتيين هم من دل الفرنسيين على محمد ولد إياي ؟)
والمعني هو محمد ولد سيدلمين ولد سيدي أحمد ولد سيد محمد ولد عبدالرحمان(بب) ولد الطالب سيدأحمد الوافي البكري .
و “بب” هو عم الرئيس”إمينوه” (سيدأحمد ولد سيدلمين ولد الطالب سيدأحمد).
وجد محمد لأمه هو المختار ولد محمد ولد إمينوه وكنية المختار الذي كان شخصية بارزة هي “إياي” وهو من قام على تربية حفيده محمد لذا فقد غلب على الأخير النسبة لإسم جده لأمه فكانت إسم شهرته هو : محمد ولد إياي .
كان محمد رحم الله مثالا للفتوة والنبوغ . فقد وصف بأنه كان فارع القامة ، وسيما وكان متضلعا من جل علوم عصره والتي جاب في تحصيلها البلاد طولا وعرضا ولدى كل المظان من المحاظر المشهورة والحواضر العالمة.
وإضافة لنجابته كان محمد طموحا وقوي الشخصية ، ذا روح قيادية و بركة وله في ذلك سر لأنه حفيد من كان يدعوه الشيخ سيدالمختار الكنتي ولي الله ” ببه” و أيضا حفيد الرئيس “إمينوه ” و كلا عميه محمد المحمود وعبداللطيف ابنا “بب ” هما من مسادير الشيخ سيدمحمد الخليفة المتميزين والمشهورين .
وقد توفي محمد رحمه الله في أوج عطائه قريبا من سن الأربعين ودفن في “بنيامز” جنوب “تمبدغه” وقد قال الصالح الحكيم بادي ولد سيدإمحمد ولد حمادي عنه في مرضه أن العشيرة لا تملك -للأسف – حظ بقاء مثل محمد على قيد الحياة في مثل ذلك الظرف الخاص.
وعودة لمسألة اكتشاف ” كومبي صالح” فيقال أن الفرنسيين لما كلموه في الموضوع اشترط عليهم أن يحققوا له جمع أولاد سيدالوافي(البعض يقول أولاد سيدببكر كلهم) في كناش تحت إمرته في الحوض .
كان حالة من الاضطراب قد سادت أولاد سيدالوافي إثر فاجعة تدمير قصر الرشيد سنة 1908م حيث هاجر البعض في ظروف صعبة إلى الحوض وصاروا ضمن مجموعات أخرى مختلفة كنتية وغير كنتية.
وإذا كان الوضع قد استرجع بعض العافية في تكانت تحت قيادة دحان اولا ليستتب بعد ذلك نهائيا ويزدهر تحت قيادة إج ولد أحمد ولد محمد محمود فإن الوضع لم يكن كذلك في الحوض الذي كان لا يتبع حينها لموريتانيا بل للسودان الفرنسي (مالي حاليا ) وهو ما أراد محمد ولد إياي استدراكه و قبل الفرنسيون بشرطه الذي شرط .
بخصوص ما حصل بعد ذلك هناك روايتان :
الأولى ظنية الوقوع : وهي أن محمد أخذ قافلة من دواب القوافل القديمة تحمل الأثقال وانطلق بها من “ولاته” بوجهة معينة وبوتيرة تنقل يومية محددة حتى وصل منطقة “كومبي صالح” بعد عدد من المراحل .
وهذا يعني ربما توظيف معلومات تاريخية موجودة ومعروفة لديه عن عدد المراحل ما بين “ولاته” و “كومبي صالح” القديمة في سالف الزمن.
وهذا أمر معقول و مبدئيا مقبول لكنها رواية آحاد وليست مستفيضة.
والأرجح أن منطقة المدينة كانت عموما معروفة عند الناس والذي ينقص هو التحديد العيني .
وهنا نصل إلى الرواية اليقينية والتي ينعقد عليها الإجماع وهي أن محمد ولد إياي ذهب ومعه الفرنسيون وعمالهم.
وعند نقطة معينة أمرهم بالبقاء حيث هم.
ثم ذهب وحده ومعه صاحب محل ثقة شخصية لديه( من أسرة أهل اعبيد النون) وعمل ما عمل وأمر صاحبه بتثبيت أربعة أوتاد في مواضع مختلفة .
بعدها أرسل للفرنسيين أن يحفروا ما بين تلك الأوتاد.
لم يلبثوا كثيرا في حفرهم إلا وقد خرجت لهم الجدران والسواري والأساطين …
عمد الفرنسيون المذهولون إلى تلبية شرط محمد ولد إياي بجمع قومه له في كناش خاص بهم لكن تنزل تلك العملية ستجعله للأسف ومن البداية في صدام مع الكثيرين.
كان وفاء الفرنسيين الظاهر مشوبا بالغدر في الباطن وذلك عندما عمدوا إلى تسميمه بإعطائه قارورة كهدية اعتقد أن بها طيبا ولما استنشقها أحس على الفور بوجع في رأسه .
عندها طلب ممن معه أن يحذروا تلك القارورة .
دام مرضه رحمه الله عدة شهور ولم يبخل عليه بدواء أو استشفاء ولكن لا مرد لقضاء الله.
بالفعل صار لأولاد سيدالوافي كناش في الحوض وقد خلف محمد ولد إياي عليه بعد وفاته إبن عم له لا يقل عنه شأوا وحزما
و هو محمد ولد امحمد ولد سيدي ولد سيدأحمد ولد “ببه” و الذي عمه الفارس المشهور اشميل ولد سيدي ولد سيدأحمد ولد بب قبل أن تعود الرئاسة لاحقا لأخ محمد غير الشقيق “دمانه” وتبقى في ذريته إلى اليوم.
ويبقى السؤال المحير ،حتى الآن ، لماذا كان ذلك الغدر من فرنسا ولأي شيء استحق عليها المرحوم محمد جزاء سنمار ؟
ليست هناك إجابات حاسمة وإنما هناك تخمينات فقط:
الافتراض الأول :
عامل نفسي وهو أن علماء الآثار الفرنسيين حسدوه وأرادوا التخلص منه وحتى يستأثروا بمجد اكتشاف المدينة بعد أن أدى المهمة وثمة قول بأنهم عبروا عن خشيتهم من أي يضع خبرته تلك في صالح الألمان ؟؟
أو ربما كان شاهدا أو من معه شاهد على استخراج كنوز فكان الإسكات مع طمس الرواية ؟؟
الافتراض الثاني : وهو سياسي “ابراجماتي” راجح وفحواه أن التزامهم الكامل بشرط محمد يضعهم في حرج مع عديد شخصيات الحوض النافذة في وقت مضطرب هم يحتاجون فيه للجميع لذا ربما آثروا التضحية به – قاتلهم الله – على ذلك النحو لتقليل المشاكل عليهم ثم إن الإدارة الإستعمارية بالتأكيد لن تكون مرتاحة لرجل من بني عمومة محمد المختار ولد الحامد الأقربين وهو يشترط عليهم
و يطلب تسخير قوتهم العمومية لصالح مشروع شخصي ولا سيما أن المرحوم كان قوي الشخصية وفي وضعية من يمن عليهم ويلح على الوفاء.

رحم الله القائد المؤسس والعالم محمد ولد إياي وأدخله فسيح جناته.

كلمة أخيرة :
تشكل مدينة “كومبي صالح ” كما غيرها من المدن المشابهة كنزا سياحيا ورمزيا وبالمحصلة مكانة سياسية دولية و عائد اقتصادي وفير للبلد ضمن رؤية معينة .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى