صندوق الزكاة الموريتاني: آفاق التجربة / زروق النعمة
صادق مجلس الوزراء في جلسته الأخير بتاريخ 26/12/2022على مشروع قانون يقضي بإنشاء صندوق خاص بالزكاة في موريتانيا. لكن قبل الخوض في مدى قابلية نجاح هذ الصندوق واستمراره، يجدر بنا أولا التطرق -ولو بإيجاز- للزكاة وتحصيلها. ومن ثم صناديق الزكاة ودرها في المنظومة الاقتصادية الإسلامية لنستقرئ مدى قابلية نجاح التجربة الموريتانية هذه.
فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، وهي صدقة فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده المسلمين يدفعونها من أموالهم وممتلكاتهم نهاية كل سنة، لتوزع على جهات ثمانية محددة تعرف بمصارف الزكاة، تتقاطع تلك الجهات بمجملها في صفقة الحاجة. وهذه المصارف محددة بالآية الكريمة في قوله الله تعالى: ﵟ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٠ﵞ التوبة. لقد حددت هذه الآية مصارف الزكاة الثمانية، وهم:
– الفقراء: الذين لا شيء لهم (على الراجح).
– والمساكين الذين يجدون بعض ما يكفيهم (على الراجح).
– والعاملين عليها: أي السعاة المبعوثون والكاتب والمقسم.
– والمؤلفة قلوبهم: وهم من دخل الإسلام وكان في حاجة إلى تأليف قلبه لضعف إيمانه.
– وفي الرقاب: ويدخل فيها عتق المسلم وفك الاسارى ومساعدة المكاتبين.
– والغارمين: أي من استدان في غير معصية وليس عنده سداد لدينه ومن غرم في صلح مشروع.
– وفي سبيل الله: أي الغزاة والمرابطون في الثغور.
وابن السبيل: أي المسافر الذي انقطعت به الأسباب عن بلده وماله.
ولقد تطورت طرق تحصيل الزكاة عبر التاريخ. ففي عهد النبوة وبالرغم من أن الزكاة كانت تمثل أهم مورد من موارد الدولة، إلا أنه لم تكن هنالك أي هيئة معينة لجمع أموال الزكاة، بل كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يختار أشخاصا معينين لجبايتها عرفوا بعمال الزكاة. وعندما تتم جباية الزكاة توزع مباشرة على مصارفها الثمانية في نفس المنطقة التي تمت فيها الجباية، وإن كان هنالك فائض يوزع على باقي المناطق الأخرى. إلا أنه في عهد الخلافة الراشدية واتساع رقعة الإسلام كثرت أموال الزكاة فاتضحت الحاجة لجهة تتولى حصر تلك الأموال وتوزيعها، فقام عمر رضي الله عنه بإنشاء أول ديوان للزكاة في الإسلام يتولى حصر أموال الزكاة وتقديمها لمستحقيها. لتتحول عملية الجباية إلى عملية تطوعية في عهد كل من عثمان ابن عفان وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، يقوم بها الافراد ممن وجبت عليهم الفريضة. إلا أن تركيز الدولة في العهدين الاموي والعباسي على الاعشار وضريبة الخراج قلل من الاهتمام بالزكاة، ليستمر عدم الاهتمام ذلك خلال المراحل اللاحقة للدولة الإسلامية حتى عصرنا الحالي حيث بدأت بعض الدول تولي عناية كبيرة بالزكاة بل اهتمت بتطبيقها عمليا فأنشأت مؤسسات خاصة بها أخذت مسميات مختلفة كبيت الزكاة أو صندوق الزكاة أو مصرف الزكاة أو ديوان الزكاة … تتولى هذه المؤسسات الاشراف على كل ما يتعلق بالزكاة من جباية وتحصيل وتوزيع ومراقبة وتنظيم… وذلك لتحقيق الغاية التي فرضت من أجلها الزكاة وهي سد الخلة وإكفاء الفقير.
وتعرف صناديق الزكاة بأنها هيئات مختصة بالزكاة تشرف عليها جهات مختصة، ولها شرعية لدى الحكومة، تهدف هذه الصناديق لأمور عدة نذكر منها:
– زيادة الوعي لدى العوام بمفهوم الزكاة، وأهميتها، في مجالات التنمية البشرية والاقتصادية، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات.
– زيادة الممارسة الفعلية والتطبيقية للزكاة، لتحقيق أهدافها الشرعية.
– تحقيق التكافل الاجتماعي، ما يولد مجتمعا متماسكا يساعد الغني فيه الفقير.
ومن أهم المهام الموكلة لهذه الصناديق ما يلي:
1- جمع أموال الزكاة. وما يتطلب ذلك من إنشاء للجان جمع الزكاة، والإشراف على طريقة عملها، ومتابعة نتائجها. وكذلك التشجيع المستمر والحث الدائم على أداء الزكاة وأنها ركن أساسي من أركان الإسلام الخمسة، وتذكير الفئات الغنية خاصة بأهمية دورهم في استعفاف الفقراء من خلال أداء الزكاة الواجبة عليهم، وأن في دفعهم لأموال الزكاة إرضاء لله سبحانه وتعالى. ويندرج تحت ذلك أيضا ضبط العمل في لجان الزكاة المنتشرة في مختلف المناطق، والإشراف على كافة الإجراءات التي تقوم بها هذه اللجان، ومراقبة كافة الحسابات والتدقيق عليها؛ لضمان الشفافية والعدل.
2- توزيع أموال الزكاة على مستحقيها (المصارف)، ويندرج تحت هذ البند: حصر مختلف الفئات المعروفة بمصارف الزكاة. ودراسة حالات الفقر في البلد، ومعرفة أحوال الفقراء والأُسر المحتاجة، لتقديم المساعدة المناسبة لكل منهم، وكل بحسب حاله ومقدار حاجته. وكذا إقامة المشاريع التأهيلية للأسر المحتاجة؛ لتوفير فرص عمل لهم ومصدر للدخل. وتقديم المساعدات المختلفة والمتنوعة لمختلف الفئات من طلاب العلم، والأيتام، والمرضى، والغرباء المحتاجين.
3- التشغيل الأمثل لأموال الزكاة. بهدف توفير السيولة المالية اللازمة لتمويل التنمية والمشاريع المختلفة. وتحقيق الاستقرار النقدي والمالي خاصة في حالات التضخم والانكماش التي قد تمر بها الدولة. وكذا تأهيل وإعداد أصحاب المشاريع للمساهمة في إنجاح مشاريعهم قدر المُستطاع.
هذا التشغيل لأموال الزكاة هو ما يعرف اقتصاديا باستثمار الزكاة، ويراد به العمل على تنمية أموالها إلى أجل، وبأية طريقة من طرق التنمية المشروعة، لتحقيق منافع المستحقين.
إلا أن هذا الاستثمار لابد له من ضوابط نذكر منها على سبيل المثال:
– أن تثبت دراسة الجدوى للمشروع ضمان الربح المتحصل ولو بأغلب الظن، أما إذا كان احتمال الخسارة عاليا أو نسبة المخاطرة كبيرة، فلا يجوز الدخول في هذه المشاريع.
– أن يتحقق من الاستثمار مصلحة حقيقية راجحة للمستحقين، كتأمين مورد دائم لمساعدتهم، أو زيادة أموال الزكاة في حال قلتها. وأن تكون المنفعة المتحققة من تلك المشاريع ضمن إطار الحاجات الأصلية التي يجب تأمينها من الزكاة كالمطعم والملبس، والمسكن، والعلاج. وألا تصرف جميع الأموال في المشاريع الاستثمارية، فلا بد من تحويل جانب منها إلى وجوه الصرف العاجلة التي تقتضي الصرف الفوري لأموال الزكاة.
– أن تتخذ جميع الإجراءات التي تضمن أن يكون الانتفاع بأصول المشاريع وريعها مقصورا على المستحقين للزكاة دون سواهم، فلا ينتفع بها الأغنياء إلا بمقابل مادي ينفق في مصالح المشروع.
– أن تملك هذه المشاريع لجهة إسلامية موثوقة وأن تتخذ كافة الإجراءات القانونية الممكنة، التي تضمن بقاء ملكية أموال الزكاة لتلك الجهة حتى لا تضيع أصولها ولا تتحول إلى جهة أخرى غير مستحقي الزكاة.
– أن تستثمر أموال الزكاة بالطرق المشروعة وفي المجالات المشروعة، فلا توجه إلى التجارة بالمحرمات أو التعامل بالربا، فهذا ممنوع في الاستثمار عامة وهو في أموال الزكاة من باب أولي.
وهناك مجالات عدة يمكن استثمار أموال الزكاة فيها، كاستثمارها في مشاريع إعاشة جماعية تدر على المستحقين دخولا دورية، أو استجلاب أدوات زراعية غير تقليدية تمكنهم من زيادة إنتاجهم. أو إنشاء مراكز علاجية وصحية تقدم خدماتها مجانا للمستحقين وللمقتدرين برسوم رمزية تعود لصندوق الزكاة للحي أو القرية.
ولاستشراق مستقبل التجربة الموريتانية بإيجاز يمكن أن ننظر لبعض العوامل التي قد يكون لها انعكاس كبير على نجاح هذه التجربة. من هذه العوامل:
– ثقة أصحاب الأموال: حيث اعتادت هذه الفيئة تقسيم زكاتها مباشرة على من تراهم مصارف لها، ما يولد لديهم الارتياح لتأدية الفريضة وإيصالها لمن يستحق. وعليه فسنكون أمام فترة قد لا تكون بالقصيرة لإقناع هذه الفيئة بتقديم زكاتها لهذ الصندوق ليتولى توصيلها لمستحقيها.
– الصعوبة الكبيرة في تحديد مصارف الزكاة في ظل الوضعية الحالية للدولة، وتدافع الكل للاستفادة من كل ما هو مادي بغض النظر عن مدى تطابق وضعيته مع المعايير المطلوبة. وهي أمور ملاحظة في مختلف المشاريع التي تشرف عليها الدولة كدكاكين أمل، وبرامج رمضان، وحتى مراكز توزيع السمك…. وبالتالي فإن تحديد المصارف الحقيقيين لابد له من إرادة صارمة في تحديد مشرفين نزيهين على هذه العملية يتسمون بالجدية والوطنية وعدم الرضوخ للتدخلات والضغوط المختلفة للتأثير على عملهم.
– عدم وجود مؤسسات مالية إسلامية بعمليات شرعية متعددة، تستطيع استقطاب أموال هذ الصندوق واستثمارها بشكل يضمن نمائها والمحافظة عليها، وبالتالي تحقيق عوائد مستمرة لمصارف الصندوق. فصناديق الاستثمار مفقودة، والبنوك هي بالأساس بنوك تقليدية، وإن كانت تتخذ أسماء بنوك إسلامية، إلا أن عملياتها في الغالب هي عمليات تقليدية بحتة. إذ كل الأدوات المالية الإسلامية مفقودة لديها إذ استثنينا عمليات مرابحة على استحياء، كما أن المحافظ الإسلامية لا وجود لها على الاطلاق. هذ ما يؤدي في النهاية إلى اشكال في استثمار أموال هذ الصندوق بطرية شبه مضمونة النتيجة.
– الفساد الإداري المستشري في البلد للأسف. وهو ما سيحد من استجابة أطراف الصندوق للنداءات الموجهة إليهم. فهو(أي الفساد المالي) حجر عثرة أمام ضخ الزكاة في الصندوق، كما أنه عامل أساسي في زيادة المصارف من فئات غريبة عليهم. كما أن تشكيل إدارة الصندوق قد لا يخضع لمعايير سليمة، والعارف بحقيقة الوضع قد يجزم بأن السباق قد احتدم الآن للفوز بإدارته. وأن تشكيل هيئات جمع الزكاة سيكون هو الآخر ميدان للتنافس للحصول على أكبر قدر من الكعكة، شأنه في ذلك شأن هيئات التوزيع، أما عن هيئات التشغيل فحدث ولا حرج.
وعليه فلا بد لهذه لتجربة الوليدة إن أريد لها النجاح أن تركز بالأساس على النقاط التالية:
– خلق جو مالي استثماري ملائم: سواء تعلق الأمر بالجهاز المالي للدولة -بحيث يستجيب لمتطلبات الاستثمار الإسلامي ولو بتدخل من البنك المركزي لإلزام البنوك (الاسلامية) في الدولة بإدراج صيغ استثمارية إسلامية في تعاملاتها- أو بفتح الباب أمام الاستثمار في القطاعات الأخرى، كالزراعة والصناعة والتجارة… بشكل عادل، وتطبيق القوانين المتعلقة بذلك بشكل سلس ومحايد.
– تشكيل لجان تسيير أكفاء: ولن يتحقق ذلك إلا أن يتم اختيار هذه اللجان من العلماء والقضاة والشخصيات العملية المشهود لهم بالورع والنزاهة، ويمنحوا الصلاحيات الكفيلة بتحقيق عملهم بشكل سليم. فوجود مثل هذه الشخصيات قد يكون له بالغ التأثير في الاقناع بالدفع للصندوق.
– وأخيرا وهو الأهم محاصرة الفساد بعيدا عن لجان الصندوق ومحيطه، حتى لا يتم التشويش على عمله. ولن يتم ذلك إلا إذا كانت كل القرارات المتعلقة بالصندوق تتم بطريقة شفافة وواضحة -ومن الاحسن أن تكون تحت إشراف القضاء- بدءا من اختيار الإدارة، والطاقم، وحتى اللجان الفرعية.
وفي الأخير أملنا كبير في نجاح هذه التجربة، وأن تكون مثالا يحتذى به على مستوى دول الجوار، وإقليميا، ولم لا عالميا إن شاء الله.