كاتبة تدعوا لاستحداث هيئة وطنية لجباية الزكاة وصرفها “مقال”
قبل ما يربو على السنة، تعهد الأوزير الأول في عرضه لبرنامج حكومته أمام الجمعية الوطنية؛ بإنشاء هيئة وطنية مهمتها جباية الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية، وكانت تلك خطوة موفقة نحو ترسيخ قيمنا الحضارية، وضبط المنظومة المالية الوطنية بضوابط الشرع الحنيف، والقيام بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الفئات الهشة، وتوزيع الثروة بشكل عادل قرره الإسلام وقعد له القواعد.
وفي إطار التحضير لإطلاق عمل هيئة الزكاة، نظم مؤتمر كبير برعاية من وزارة الشؤون الإسلامية كما حضرته الوزارات المعنية..، وجمع مقدر من العلماء وأهل التخصص، وقد شاركت فيه بدعوة كريمة من أستاذي المفضال العلامة الدكتور الشيخ محمدن ولد سيدي محمد ولد حمينه، وكنت العنصر النسوي الوحيد المشارك في ذلك الحدث الفارق، وقد عقدت على هامشه جلسات علمية ذات مستوى علمي رفيع، تضمنت التأصيل الشرعي والتطبيق العملي والآثار المتوقعة والآفاق الممتدة ووسائل الرقابة ومعايير الضبط وآليات التدقيق الداخلي والخارجي واستقلالية العمل وغير ذلك من المتعلقات والتوابع..
ولكن يلاحظ تأخر نسبي في تنفيذ هذا التعهد، قد يكون مرجعه التأني في إعداد الدراسات اللازمة لضمان جدية العمل، وتحري شفافيته المفصلية في مؤسسة لا تقوم على رواسب الإفساد؛ لحساسية دورها وارتباطها بامتثال الركن الثالث من أركان الإسلام، ومع ذلك يجب المسارعة إلى تجسيدها على الواقع؛ لاحتياج الفئات الأكثر فاقة إليها، ولكونها تمثل أسلوبا ناجعا لامتصاص مشكل البطالة المقوض لأي تنمية مستدامة، حيث يعتبر مصرف العاملين عليها مصدرا من مصادر التشغيل ينفق عليه “ثمن” الأموال المتحصل عليها من الجباية، دون الحاجة للصرف من موارد الدولة، يضاف إلى ذلك حماية حقوق الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء وهذا واجب شرعي على الدولة، وحمل أهل الدثور على القيام بحق الله تعالى المفروض في الأموال، وهو ما يتقاصر عنه البعض بحجة “أنه يكثر من الصدقات”، وقد نسي أو تناسى أن التطوع لا يتأتى قبل أداء الفرض، قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: “من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور”.، ثم إن كثيرا من الأموال يتم اكتنازها في البنوك نظرا لغياب آلية لأخذ الزكاة من الودائع الاستثمارية أو الحسابات المجمدة، ولا تدخل الدورة الاقتصادية بشكل يحقق الرواج، يقول ابن عاشور -رحمه الله- عند حديثه عن المقاصد الشرعية في المال بعد أن عرف الرواج:”الرواج..وهو مقصد عظيم شرعي دل عليه الترغيب في المعاملة بالمال ومشروعية التوثق في انتقال الأموال من يد إلى أخرى” ، فالانتقال بين أيدي كثير من الناس مقصد يخالف الاكتناز الممنوع شرعا، والمنع قد يحصل بسبب الادعاء أن المؤسسات شخصيات اعتبارية لا تطالها التكاليف الشرعية.
إن المؤسسات المالية باعتبارها أموالا ترجع ملكيتها لأفراد مكلفين بإخراج زكاة المال إن توفرت فيه الشروط، وكذا وجود آخرين من أصحاب الدثور لا يحرصون على إخراج الزكاة كما ورد في النصوص الشرعية القطعية الثبوت والدلالة، وغياب آلية تطبيقية للجباية والتوزيع وفق المصارف المحددة شرعا، ووجود حاجة ماسة لدى الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من المصارف الشرعية للزكاة؛ تعد أسبابا
ذات وجاهة تضغط بإلحاح نحو التسريع بإنشاء هيئة وطنية تعنى بجباية الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية.
ولكن لا بد لقرار موفق من هذا الحجم أن يدرس بعناية، وأن يبتعد القائمون عليه عن كل الممارسات الغير لائقة بصرح شرعي يراد له أن يكون امتثالا لأمر رباني يقيم أركان الإسلام، وينبغي الحرص على ضرورة ضمان وصول أموال الزكاة إلى مصارفها؛ لأن إحجام الكثير عن تمكين الدولة من جبايتها يعود إلى الخشية من وضعها في غير موضعها.
واستشارة أهل التخصص وإشراكهم في وضع أسس وقواعد العمل فيه، والثقة بالله العلي العظيم أولا في تحقق السداد والرشاد والنجاح، ثم في وجود النية الصادقة على التغيير واستحضار قيم العدل والحق.
يضاف إلى ذلك كون إنشاء هيئة على هذا المستوى؛ داخلا في إستراتيجية مكافحة البطالة كما ذكر، إذ يعد مصرف “العاملين عليها” من أهم وسائل اكتتاب الشباب المؤهل العاطل عن العمل وخصوصا مخرجات التعليم العالي الشرعي؛ مثل المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية شعب الفقه وأصوله، وأصول الدين، والاقتصاد الإسلامي، وجامعة العلوم الإسلامية بالعيون بمختلف تخصصاتها، وطلبة العلم من طلاب المحاظر النموذجية، وكذا كتائب الخريجين الجامعيين العاطلين من مختلف التخصصات.
ثم إن دوران كم كبير من الكتلة النقدية في البنوك الربوية المحلية والتي لا تلقي بالا لفريضة الزكاة؛ يعطل جزءا كبيرا من المصادر المالية عن أعظم فريضة في حق المال، وقد يؤدي إلى تحييد أصول نقدية ذات حجم كبير لا تعمل على إخراج الأموال الزكوية من الأموال المتداولة في الدائرة الاقتصادية الوطنية، أو في السوق النقدية؛ لكونها مؤسسات تعمل وفق نظام الفائدة الربوية، وهذا يدعونا إلى دعوة القائمين على جهة الوصاية على النظام المصرفي الوطني إلى التعجيل بوضع النصوص التطبيقية للقانون رقم 036/2018؛ لضبط عمل البنوك الأولية التي تقدم خدمات مالية ذات طبيعة تشاركية، والإشراف على عملية إخراج الزكاة لأموال المساهمين فيها، وأصحاب الودائع الاستثمارية، وتحفيز البنوك الأولية الأخرى الراغبة في التحول إلى النظام المصرفي الإسلامي.
أما المصرف المركزي الذي يطبق نظام المشاركة أو يقوم على نظام مزدوج؛ فإنه يتعامل بنظام الزكاة، ويوجه البنوك الأولية التشاركية نحو تبويب أنظمتها المحاسبية على إخراج الزكاة، ويراقب القوائم المالية لهذه المؤسسات، ويعتمد معايير شرعية تقوم عليها عملية المراجعة الشرعية الخارجية، تقوية لقدرة النظام المالي على الامتثال لأوامر الله تعالى في الجانب المالي.
والزكاة مصدر للبركة والنماء والطهر من حيث معناها اللغوي ومقصدها الشرعي، وهي ثاني أركان الإسلام بل إنها شقيقة عماد الدين الصلاة تؤخذ من أموال الأغنياء فترد على الفقراء تطهر المال وتزكي النفس فالمال عزيز وعندما تجود به تسمو وترتفع وتشرف
قال الله تعالى:﴿خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾.
وقد توعد الله سبحانه من لا يدفع الزكاة بشديد العذاب، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَومَ يُحمَى عَلَيهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزتُم لِأَنفُسِكُم فَذُوقُوا مَا كُنتُم تَكنِزُونَ﴾.
والزكاة هي كذلك حق للمجتمع في عنق الأفراد الأغنياء، فأداؤها يحقق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم ويضمن الكفاف للفقراء، وهي أيضا ضمانة لتحقيق مقصد الشريعة في تداول الأموال وعدم تركزها في يد قلة من الناس، ويعتبر تحديد المستفيدين منها حصرا؛ نوعا من التوزيع العادل للثروة، وزرعا للمحبة بين الفقراء والأغنياء، فالفقير إذا كان ينتفع من زيادة مال الغني تمنى لماله النماء، فبزيادته تزيد نسبة انتفاعه منه، ويزول عنه حسده، ويتأسس نظام لغرس المحبة بين أفراد المجتمع المسلم، ويتجلى النظام التشاركي بركائزه الأساسية اقتصاديا واجتماعيا.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
بقلم الدكتورة رقية بنت أحمد منيه