مأمورية بناء الجمهورية وقابلية الإجماع الوطني
تُشرفُ المأمورية الأولى لفخامة الرئيس عل تَتِمَّتِها خلال أشهر قليلة، وهي مأموريةٌ أثبتَ فيها قدرتَه على توجيه البوصلة إلى اجتماع الكلمة، و فضِّ الاشتباكِ بين أطراف الاحتقان في مجالات الشأن السياسي والاجتماعي والمهني، ومحاور الصراع الإقليمي والدولي بسلاسةٍ، معتمداً على خبرةِ تجربته ، وفلسفةِ القوة الهادئة التي منحه الله، المتمكنة من فهم سردية الحروب الممتدة بين الماكينات والمرجعيات المختلفة.
وخلال أربعة أعوام من هذه المأمورية المسالمة، واجهَ البلدُ بحزمٍ أزمةً عالميةً صحيةً غيرَ مسبوقة؛ وأنشِئت مبادراتٌ فعالةٌ، أينعت ثمارها في مجال التشاور السياسي، ونهج الإعلام المندمج، مما أوجد مناخاً سياسيا هادئا، تمخضت عنه انتخاباتٌ توافقية، لا حدِّية فيها ولا إقصاء، وكانت برامجُ التأمين الصحي والاقتصاد الاجتماعي، وبرامجَ الأولويات المتعددة، برامج عملت بلا كللٍ ـ رغم تراكمات الإرث الثقيل لعهودٍ من النهب والفساد ـ مؤسِّسَةً لمساراتِ تنافست في جهود إنهاءِ تجويع الفقراء، وبطالة الكفاءات، وتواترت بشكل ممنهج على القضاء على كانتونات التهميش و الفقر، في الاحياء والضواحي المنسية، التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود في فضاء الرُّحَّلِ وضواحي العاصمة السياسية، وكبريات المدن في أعماق موريتانيا.
صحيحٌ أن المراجعاتِ التي تمت في مجالاتٍ عديدة؛ نُظُماً و تشريعاتٍ وإصلاحاتٍ هيكليةً، تتطلب آجالاً وكفاءاتٍ بشريةً ليست من صنع الآجال المحدودة، لكنَّ البلد خرج من دورةِ حكم الفرد، وهو أبعد ما يكون عن عهود الصّخب، والصراعات العبثية، التي عصفت بأنظمة الزمان والمكان الفارطة، التي كانت انقلابات غير دستورية، كلما دخلت أمةٌ منها لعنت أختَها، وألغت إرشيف وهوية من يخالفها في البرلمان وفي الأحزاب وفي الإعلام.
دعونا نشيد بفكرةِ التّداول بين الأجيال في وظائف المرفق العمومي، وإدارة ملفات الحكومة، وتسيير الأحزاب السياسية، والمناصب الإدارية والعسكرية والمدنية، ونعتبرها سنةً دائمةً نُجمِع على مخرجاتها دون تمييز، وأن نؤسس لمبدإ ديمومة الفصل بين السلطات وبين الحقلين العمومي والخصوصي، ونجعل ذلك حجر الزاوية في عدم الخلط بين العمومي والخصوصي، فما أحوج شعبنا إلى تلك المراجعة الشاملة والجادة لمحاربة الفساد وجماجمه.
قلتُ دائماً ـ ويُثبِتُ ذلك عهدُ فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ـ أن موريتانيا لا تُقادُ برأسين، ولا تتحدث بلسانين، وأي مرفق عمومي أو خصوصي مُنِحَ الصلاحيات والموارد، يجب أن يقدم حصيلةً في مجال الاستثمار؛ مبانيَ ومعانيَ.. أو يترك صاحبُه موقعَه، إن لم يترك بصماتٍ وآثاراً تنفع الناس وتمكُثُ في الأرض.
نحتاج إلى فهم القاعدة التالية: هذا الوطنُ بناءٌ لا ينتهي العمل فيه، وتجارب أبنائه يجب أن توضع تحت تصرُّفِه مهما تغيرت المواقعُ ومجالاتُ الخدمة والاختياراتُ.
إن للمأموريةَ القادمة من شروطِ النجاح ما هو متوافر وقائمٌ الآن؛ من التيارات الوطنية الداعمة، والإنجازات الرزينة الماثلة؛ ويمكن من خلال رؤية الإجماع الوطني أن ندرك أن الجميع مهما اختلفت مشاربهم، وتعددت مصالحهم، وتباينت آراؤهم، يمكن أن يتفقوا تحت مظلة الإجماع الوطني، التي وضعَ أسُسَها فخامةُ رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني على بناءِ موريتانيا المستقبل المشترك، من خلال (مأمورية الإجماع الوطني على بناء الجمهورية ورؤية الإجماع الوطني على الخيارات الوطنية الكبرى 2024-2029)، التي تضمن أن تكون موريتانيا وريثة لمشروعية الرباط الأول، الذي أسسه الإمام الفاتح، دفين مكسم ابن عامر، أبوبكر بن عمر رحمه الله، وأحيى نهجه الذي خلف في فضاء الساحل والصحراء.
وببلاد شنقيط وأرض الملثمين، مجتمعُ الأخوة بلا رشوة، والمحبة بلا كراهية، والتشاور والتناصح والتعاون على البر والتقوى، بلا صراع ولا إقصاء ولا عصبية.
حقيقٌ بالمبدعين والإعلاميين، والمؤثرين وحكماء البلد النفير الآن من أجل بناء رؤية مشتركة أساسها الجمهورية، وقابلية رص الصفوف لمواجهة الأخطار المشتركة والتحديات الإقليمية والدولية، والحفاظ على الحوزة الترابية، وقيم الوحدة الوطنية بالدعم اللامشروط لمأمورية جديدة، يتشارك فيها الجميع لا يستبدُّ فيها طرف برأيٍ، ولا بمسار، فهذا لحن عصر النفط والغاز، ومواجهة الحروب الممتدة، ومقاومة تحالفِ الغزاة، والطغاة، والغلاة، والأثرياء الجدد الحفاة، وكل مستهزئ بقيم شعبنا من هذه التَّاءات الأربعة، جوا جاءوا، برا جاءوا، بحرا جاءوا!
حرب غزة ليست مجرد طوفان، والانتخابات القادمة هي البداية لتكريس الإجماع الوطني ، فلا تلعبوا، هذا أوان الجد والاحتساب.
حفظ الله موريتانيا!