سيد أحمد ولد أج رئيس القبيلة والموريتاني الأول/ سيد محمد أمينوه
” مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا “
يُعاني من يكتب عن أحبابه بعد رحيلهم، خصوصا إذا كان الراحل بحجم الزعيم سيد احمد ولد اج، غير أن في توفر المعلومات الموثوقة ومعاصرة الكاتب لبعض الأحداث التي يؤثث بها كتابته يجعل من الكتابة في أحد شقيها أقرب الى شهادة يتذكر أحداثها، يرتبها، يستحضر شخوصها وقائعها ويؤديها.
بدأت القصة حين تولى سيد أحمد ولد أج رئاسة القبيلة قبل الاستقلال الوطني بقليل، كان والده الزعيم الكنتي الأشهر أج ولد محمد محمود ولد أمينوه يتوسم فيه الخير ويطيل النظر فيه، وكذلك كان أخوه الأكبر احمد ولد أج والذي التحق بالإدارة الموريتانية والعمل الدبلوماسي مبكرا، تاركا الأمر لسيد احمد من بعده وظل عرابه وسنده حتى وفاته دجنبر 2009.
قام سيد احمد ولد اج بمهمته على أكمل وجه وكأنه عناه الشاعر بقوله:
أَتَتهُ الخِلافَةُ مُنقادَةً – إِلَيهِ تُجَرِّرُ أَذيالَها
وَلَم تَكُ تَصلُحُ إِلّا لَهُ – وَلَم يَكُ يَصلُحُ إِلّا لَها
وَلَو رامَها أَحَدٌ غَيرُهُ -لَزُلزِلَتِ الأَرضُ زِلزالَها
وكانت حلة أولاد سيد الوافي التي ترأسها سيد احمد ولد اج قد أستقر مسارها من زمان والده اج ولد محمد محمود في ترحال أبدي بهدف الانتجاع ، مركزه الرشيد في موسم ” الكيطنه” صيفا وشمال الرشيد شتاءا وحواليه وشرق الرشيد في بداية الخريف .
الرشيد.. المدينة القبيلة
إذا كان المجتمع الكنتي أسس عدة مدن في تكانت ك “تالمست ” و “گصر البركة” في بحر القرن ال 17، شكّلت -هذه المدن – مركز إشعاع علمي وتجاري وزراعي في زمنها فإن ثمرة هذا الجهد العمراني الكنتي تجسّد في استحداث مدينة الرشيد في نهاية القرن 18، وفي سنة 1783 م تحديدا.
ظلت الرشيد (مدينة موريتانية) المدينة التي أسست على تقوى من أول يوم، واقفة على قدمين من علم وتجارة، فارتكزت على محظرتين كبيرتين أكتتب لها الرشيديون مهرة العلماء وخيرة المرابطين من كل حاضرات العلم في أرض البيضان، فأطّرت وكوّنت المحظرتين أجيالاً رشيدية عالمة إلى أن صدّرت محاظر الرشيد علماء أجلاء لم يتغربوا لطلب العلم من كتابة حروف الأبجدية العربية الى أن تصدروا للتدريس في شتى العلوم الإسلامية.
كما أن الرشيديين استوفدوا من واحات النخيل في شنقيط وجوارها الواحاتي فسيل النخيل والأيدي العاملة الماهرة لغرس النخيل على عُدوتي الوادي فكانت طيبات الرزق والأمن الاقتصادي من هذه الشجرة المباركة وما ارتبطت به من خير عُرف به الرشيد في أسواق القرن الثامن عشر ،وكان الانسان الرشيدي المُجد والمنضبط من جعل من مدينة الرشيد ،سوقا كبيرا آمنا و رائجا للتبادل التجاري ، من منتجات السودان (مالي)المجاور والسنغان (السينغال) جنوبا و واد نون ومراكش شمالا ، علاوة على منتجات وادي الرشيد ومدن الجوار الوطني ، وهذا ما أراد رئيس القبيلة يومها سيد احمد ولد سيد الأمين (أمينوه الكنتي) للرشيد أن تكون عليه.
الرشيد.. مدينة الكرامة وعرين الأسود
إن ازدهار مدينة الرشيد جعل منها رمزا “كنتياً “في زمن القبيلة، فكما استفادت من علاقة وأحلاف قبيلتها “كنتَه ” تضررت أيضاً من شر أعداء القبيلة يومها، فقُطع نخيل الرشيد أكثر من مرة في زمن الحروب القبلية، وعكف الرشيدي قوي الإرادة على الغرس بعد كل مرة قَطْعٍ، وواصل الرشيد عطاؤه النادر من غير أن يُميّز بين الإنسان الرشيدي فالنسبة لهذه المدينة تتجاوز النسبة للقبيلة التي أسستها، فلا تكاد تستثني قبيلة من قبائل الجوار إلا ولها مُلك عقاري – والنخلة عقار في مصطلح القوم – في وادي الرشيد.
هذه الفسيفساء الإثنية الرشيدية، حفظت بها الرشيد لكل مكون اجتماعي في المدينة كرامته، وصنعت شغف الرشيدي بمدينته وأسست لثقافة الاتقان والتجويد كتعبير عن قيمة الانسان ومكانته، فبرز الاتقان والتجويد في كل منتج رشيدي مادي كان أو لا مادي، فكأن الجود توقيع أبدي للرشيد، بدءًا بالمعارف الإسلامية والعمران وعلوم الانسان وصناعة الرفاه وتجويد الحياة ومرورا بقيم الفروسية والأنفة والتضامن والتكافل، فكل رشيدي مشارك طول مسيرته في ترسيخ هذه الثقافة حتى أستقرت في المدينة خلقا يوميا من غير تكلف.
لعلّ تاريخ الرشيد المجيد وصيته ومهارة كزافيي كبلاني في معرفة مجتمع البيضان عموما وكنته خصوصا ،دفعته الى الإبراق – قبل أن يتسلّق هضبة تكانت متربصا خائفا – الى شيخ الرشيد ورئيس المجتمع يومها الشيخ المجاهد محمد المختار ولد الحامد ولد أمينوه يحثه الى الالتحاق بحلفاء فرنسا في أرض البيضان ،لكن المقاومة الشرسة لمجتمع الرشيد بكل مكوناته بلا استثناء و بسالة شيخ مقاومته الشيخ المجاهد محمد المختار ولد الحامد ،خلعت قلب خليفة كبلاني في تجكجة وجعلته يغيّر خطته في السيطرة على آدرار عبر مجرى واد لگصور ،فاستحدثت فرنسا مدينة المجرية لتجعلها المركز وتنسحب بثقلها الإداري من تجكجة القريبة من الرشيد التي دمرته مدافعها الثقيلة يوم 16/08/1908 ،مخافة ردة فعل مقاومة الرشيد التي لن تستسلم أبدا.
الرشيد” الجديدة “.. المدينة الموريتانية بامتياز
وكأن سيد أحمد ولد أج قد ألهم سر الآية ” إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ” كانت حياته المباركة، كلها اصلاحا، سفرا وحضرا، صيفا وشتاءا، ولأنه موفقا شغل نفسه بنفع الناس ومكث في أرضه “وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”.
كان شعب الرشيد والذي دمرت المدافع الثقيلة الفرنسية مدينته – أول مدينة في أرض البيضان تدمرها المدافع الثقيلة الفرنسية – كان شعب الرشيد إذا محتاجا للاستقرار المدني خصوصا بعد أن شارك إخوته في الوطن فرحتهم بالاستقلال الوطني ورحيل المستعمر الفرنسي، وقيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية، احتياجه لقائد للمرحلة، امتلأ بأسباب القيادة وأستوعب التحول السياسي العميق في الاجتماع السياسي وآمن بالكيان السياسي الجديد “الدولة الموريتانية “وليس هذا القائد غير سيد احمد ولد أج.
ورُغم مخاوف شعب الرشيد – في شتاته الاجباري – من التمدن لقرب ذكرى تدمير فرنسا لمدينته، أستجاب هذا الشعب المجد لقيادته التقليدية متمثلة في الزعيم سيد احمد ولد أچ في دعوته لتأسيس مدينة تجمعهم بعد أن زال خطر المستعمر الغاشم، فكانت مدينة الرشيد “الجديدة “التي ولدت من رحم التضحية والنضال في نهاية ستينات القرن الماضي.
سيد احمد ولد أج.. الموريتاني الأول ورائد ثقافة التطوع
عكف الرشيدي جادا على شق الطرق في الجبال وحفر الآبار والعيون وبناء الدور ومتطلبات العيش الكريم في المدينة الريفية، فكانت الرشيد الجديدة متميزة وعصرية بنكهة الأصالة وفي القطاع التجاري منفردة، وأبهرت الزوار بدقة عمرانها وتخطيطه وبساطة عيشها الأنيق وتنظيم أهلها المتقن في شتى مجالات الحياة. وكان سيد أحمد في المقدمة في كل أوراش المدينة الجديدة ،فكانت عطلة الأسبوع يوما للتطوع لتشييد المرافق العامة ، المدرسة ، النقطة الصحية ،وصيانة الطريق العام وكان سيد أحمد السيد الذي لا تكاد تعرفه في “كندوره “يحمل الحجر ويمازح البشر ويثني على الجميع ويزرع الثقة في الأنفس بحضوره ومباشرته الأعمال اليدوية ويشجع الأطفال و النساء ،وتكون مؤونة يوم التطوع من داره العامرة ،وهكذا في جميع ما يهم الشعب في واحاته و مزارعه البورية و سدوده ،فتراه يترأس اجتماعا من أجل انقاذ موسم زراعي تأخر مطره أو تلفت سدوده أو تقاعست يده العاملة .
ولم يتوقف سيد احمد في عملية الإصلاح الكبيرة التي كرس لها حياته عند حدود الرشيد وتكانت بل أشرف على مصالح كل المنحدرين من الرشيد، الذين منهم ارتحلوا واستقروا عمالا في المدن الكبيرة نواكشوط ونواذيبوا وازويرات، فكان يزورهم في أماكن عملهم ويطلعهم على مستجدات عملية البناء في الرشيد الجديدة ويربطهم بمدينتهم وما بقي من أهلهم فيها ويشجعهم على تنظيم رحلات الى الرشيد.
والذين نزحوا أيام الجفاف من الرشيد وراء ثرواتهم الحيوانية في الشرق الموريتاني في لعصابه والحوضين وكيدي ماغا وعلى مشارف حدود الدولة مع جاراتها الافريقية، ظل على ارتباط وثيق بهم الى يوم الناس هذا، وتابع مسيرتهم طيلة عمره المبارك حتى استقروا بإشرافه حضوريا وإداريا في قرى ومدن في الأرض التي عاشوا فيها واتخذوها سكنا من وطنهم الكبير موريتانيا.
في كل جزئية صغيرة في ملحمة التنمية بالرشيد ،المدينة الموريتانية ،يكمن سيد احمد ولد أج ناصحا وداعما و مؤثرا وقائدا لكل اصلاح فكشف الله به كل مدلهمة وغمة و نشر به كل خير ونعمة وصرف به كل سوء ونقمة ،و إنه لمن الإجحاف وبُعدا مُقززا من الإنصاف أن لا يقول كل رشيدي من الحوض الى بير أم أكرين شكرا للوالد سيد احمد ولد أچ ،شكرا جزيلا على ما وصلْتَ من حضارتنا بعد قطْعِ المستعمر له ،وما أتممت من خير كان آباؤك الأماجد قد بدوؤه ،فمثلك من يتكلم ويُسمع له ويُصدّق ، فأنت المؤتمن على الرشيد (أيام لا قرى … وإن حنّتِ الشهباء للمالِ “باذِلُ” )،فلا أحد من هذا المجتمع العظيم ، ولا موريتاني واحد إلا ويُدرك و يثمن دورك المشهود في تأسيس الجمهورية والحفاظ على الأمن فيها و اصلاح ذات البين ، فالجاحد من يجحد فضلك ،أدام الله ذكرك الزكي وبارك في خلفك و برّدَ مضجعك :
حدْ أعْرَفْ سيدَ احْمَدْ،وأَصْبرْ
مَمْشاهْ ،ؤُمُصابُو لكْبِيرْ
بِيهْ أَسْكَتْ.عذْرُو . لَمَرْ أَكْبَرْ
-ماَ عظّمْنَاهْ – أمْنَ التّعْبيرْ
وانا لله وانا اليه راجعون.