عقدان من تطبيق نظام LMD في جامعاتنا.. أما حان وقت المراجعة؟ / يحي ولد البيضاوي

يُعدّ التعليم العالي أحد أعمدة النهوض بالأمم، إذ يسهم في الارتقاء بها نحو مراتب النضج والفاعلية، ويتيح لها أدوات التقدم وتحقيق الرفاهية، ومن الطبيعي أن تسعى كل دولة لاختيار الأنظمة التعليمية والتربوية التي تتناسب مع خصوصياتها الثقافية والاقتصادية، ذلك أن ” قيمة أيّ أمة تظهر من خلال مستوى تعليمها” على حد تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي.
ولقد عُرف سكان الصحراء منذ القدم، خصوصا في المنطقة التي تُعرف حاليا بموريتانيا وأطرافها، بقدرتهم على تذليل الصعاب والعوائق التي تربط البداوة بالجهل، فسيّروا الجامعات البدوية (المحاظر) على ظهور العيس تجوب الصحاري جيئة وذهابا تحمل العلم والعلماء، وتنشر تعاليم الدين الحنيف وقيمه السمحة، فكسروا كل التوقعات التي تنبني منطقيا على ظروفٍ كظروفهم، وأثبتوا أن الإرادة أقوى من كل قواعد التاريخ وأحكامه المألوفة، حتى قال عنهم الدكتور محي الدين صابر ذات مرة “.. إنهم الممثلون الأوفياء للثقافة العربية الإسلامية في نقائها وأصالتها، وإنهم سدنتها في قاصية ديار الإسلام “.
وإذا كان تعليمنا الحديث لم يستطع أن يحقق ذلك الزخم الذي امتاز به التعليم المحظري من قبل، لأسباب موضوعية ولوجستية، إلا أنه – والحق يقال- لم يكن بذلك السوء، فلقد ظل واقفا يراوح الاعتماد من رِجْل لأخرى ينتظر دعماً يمكّنه من الخروج من دائرة الاجتهادات المحدودة إلى فضاء التميز والمنافسة العالمية، إلا أن ذلك الأمل كثيرا ما كان يتحطم أمام الإصلاحات العشوائية التي كانت تتم من حين لآخر بقرارات فوقية دون مشورة تذكر لأهل الميدان وذوي الاختصاص، تحديدا في قطاعي التعليم الأساسي والثانوي مما انعكس سلبا على مخرجاتهما فلامست نسبُ النجاح في شهادة ثانوية العامة في بعض السنوات حدود الـ 4 % وهي نسبة تعكس بجلاء حجم الأزمة.
وفي خضم هذا السياق اعتمدت موريتانيا رسميا عام 2008 النظام التعليمي المعروف بـ LMD، فما هو هذا النظام؟ ولماذا اعتمدته موريتانيا؟ ثم لماذا رافق تطبيقَه صمتٌ شبه مطبق عندنا مقابل الاحتجاجات الواسعة التي عرفتها دول الجوار المغاربي؟
*نشأة نظام LMD: خلفيات أوروبية وسياقات مختلفة*
ظهر نظام LMD ( لسانس ـ ماسترـ دكتوراه) نهاية التسعينات في أوروبا استكمالا لمتطلبات اتحاد بلدانها خصوصا في مجال التربية والتعليم، وتطويرا لنُظُمها التعليمية، ودعما لأسواقها في مواجهة تنافسية علمية واقتصادية حادة ظلت تخوضها أوروبا مع اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، ولم يتم تطبيق هذا النظام في تلك البلدان بين عشية وضحاها بل أقيمت له المنتديات وعقدت حوله المؤتمرات وتناوله الخبراء بالدراسة والتمحيص وظلت النقاشات حوله تنتقل من صرح علمي إلى آخر في العديد من البلدان الأوروبية إلى أن تأكد أهل الاختصاص من نجاعته وقدرته على خدمة الأهداف التي وضعها الساسة، ثم إنه نظام تعليمي جاء في سياق علمي متين مدعوم ببنية تحتية تعليمية قوية تميزت بازدهارها وقدرتها التنافسية العالية، بالإضافة إلى أنها بيئة حاضنة للبحث العلمي المزدهر منذ عصر النهضة، فهل تتوفر لدينا ظروف مشابهة لتلك الظروف؟ وهل كان من الحكمة نقل هذا النموذج كما هو إلى جامعاتنا الناشئة؟
*فجوة التحول: من المحظرة إلى LMD*
من المعلوم أن نظامنا الجامعي الذي انطلقت نماذجها الأولى نهاية السبعينات من القرن المنصرم، لم يحظ ببنية تحتية مقبولة إلا في نهاية العقد الأول من القرن الحالي، إذ ظل عبارة عن كليات محدودة معظمها في مجال العلوم الإنسانية، نظرا للظروف الاقتصادية الحادة التي يعاني منها الوطن منذ نشأة الدولة الحديثة، وكانت البلاد تعتمد أساسا في تعليم أبنائها في المرحلة الجامعية على الابتعاث الموجه إلى الدول العربية والأجنبية الصديقة، حيث كانت تلك البعثات التعليمية بمثابة الثقب الذي تتنفس منه البلاد معرفيا وعلميا، خصوصا في ظل غياب التخصصات العلمية ومحدودية التخصصات الأخرى داخل البلد، ومن هنا نستطيع أن نتفهم سرعة انجذاب موريتانيا إلى الأخذ بنظام LMD رسميا ودون مقدمات تذكر سنة 2008، أي بعد أن أخذت به دول المغرب العربي مطلع الألفية الحالية فضلا عن الدول الأوروبية، غير أن البلدان المغاربية لم تكن لتأخذ هذا النظام بسهولة فقد نتج عن تطبيقه في جامعاتها موجاتٌ من النقد والأخذ والعطاء بات تأثيرها يتسع ويتعاظم إلى أن أوقفته المغرب رسميا بعد مرور 17 سنة من تطبيقه سنة 2021 لتعتمد نظام البكالوريوس(Bachelor )، أما في الجزائر فقد قدم مدير التكوين والتعليم العالي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي جمال بوقزاطه 2023 مقترحا لإصلاح نظام التعليم في الجامعات الجزائرية، تحت ضغط النقد القوي لنظام LMD، يتضمن رفع سنوات التكوين في الليسانس من ثلاث سنوات إلى أربع، ثم جاءت أوامر الرئيس الجزائري تبون بعد ذلك بمراجعة نظام LMD وفتح نقاش موسع حوله.
والسؤال الملح هنا لماذا الصمت المريب الذي يسود ساحتنا الأكاديميةَ تجاه هذا النظام؟ فهل هو دليل على الرضا والقبول، أم هو مجرد صمت العاجزين أي “صمت الغلابة” حسب تعبير المشارقة؟
*الواقع يجيب: نظام تعليمي دون تطلعات*
ما يمكن الرد به على هذا التساؤل هو بالضبط ما يبوح به الشارع، ويعلو به الصخب في الصالونات، وتعترف به الدوائر الرسمية ذاتها في كل بقعة من بقاع الوطن، ألا وهو أن النظام التعليمي الجامعي في بلادنا دون المستوى المأمول بدرجات كبيرة وكبيرة جدا، ولا أدلّ على ذلك من أن المسابقات الرسمية التي تستقطب الشباب العاطلين من العمل من خريجي هذه الجامعات، باتت تعود بخفي حنين، ففي سنتي 2021 و 2023 فشل جميع المترشحين ضمن مسابقة الأساتذة في تجاوز عتبة النجاح في مواد كالفيزياء والفرنسية، بل والرياضيات ( وهذه هي المواد التي نحرت من أجلها البقرة في إصلاح نهاية التسعينات )، مما اضطر وزارة التهذيب الوطني ساعتها إلى استخدام المتقاعدين تحت بَند مقدمي الخدمات لسد النقص الكبير في أساتذة التعليم الثانوي والإعدادي.
ولا يمكن إعفاء نظام LMD من المسؤولية عن هذه النتائج، أو بالأحرى الظروف التي صاحبت تطبيقه، رغم وجود عوامل أخرى أسهمت فيها. فقد شكّل عجز الجامعات المحلية عن توفير الشروط الضرورية لنجاح هذا النظام أحد أبرز الأسباب إذ يتطلب تطبيقه كثيرا من التكوين، والتدريب، وورش المتابعة والتقييم، فضلا عن متطلبات البنية التحتية من معدات ومعامل ومخابر، خصوصا وأن هذا النظام يعتمد أساسا على البحث والابتكار، وفي غياب هذه المتطلبات لم يبق من نظام LMD إلا التسمية والإطار الزمني الذي لا يفي حتى بمتطلبات التكوين التقليدي، وقد اعترف لي بعض الأساتذة الجامعيين بأن الأستاذ المشرف على نظام LMD في جامعتهم – وهو في العادة أستاذ من إحدى الجامعات التي تطبّق هذا النظام – لم يزر جامعتهم سوى مرة واحدة، ليقتصر التواصل معه بعد ذلك على الهاتف فقط، وهو ما يمثل دليلاً واضحًا على الإخلال بالتطبيق.
لكن يبقى السؤال المطروح: لماذا صمت النخب؟
تتعدد الأسباب التي تفسر صمت النخب الأكاديمية، ولعل من أبرزها الظروف الاقتصادية التي تجعل تأمين لقمة العيش أولوية قصوى، مما يصرف الاهتمام عن قضايا أخرى. ويزداد الأمر تعقيدًا بكون أغلب الأساتذة الجامعيين من فئة المتعاونين، الذين يمكن الاستغناء عنهم في أي وقت، ما يدفعهم إلى تبني خيار الحذر والصمت أخذا بالمبدأ: “لا تعترض فتنطرد”، وقد يفهم مِن تمسّك الجهات الرسمية بهذا النظام غيابُ أي أمل في تعديل موقفها، كما قد يكون الصمت خوفا من التصنيف في خانة المعارضة للإدارة أو السلطة، لهذه الأسباب وغيرها، ساد الصمت، وفضّل الكثيرون مجاراة الواقع على أمل تغيّره يومًا ما.
وأخيرا أرى أن إعادة النظر في نظام LMD في السياق الوطني لم تعد مجرد خيار بل ضرورة تفرضها التحديات الواقعية والمخرجات المتواضعة، فقد آن الأوان لفتح نقاش وطني موسع يشارك فيه الأكاديميون وأهل الاختصاص بعيدا عن الإملاءات والتجارب العشوائية، يتناول نظم التعليم في مؤسساتنا الجامعية ويعيد تصنيفها طبقا للأهداف المتوخاة منها والنظم التعليمية التي تصلح لها، فإذا كان نظامLMD يصلح لجامعات بعينها فقد لا يصلح لأخرى خصوصا تلك المتخصصة في العلوم والمعارف الإسلامية، ونظرا للظروف المستجدة التي توفرت مع النظام الحالي، وما يوليه من عناية للتعليم العالي والبحث العلمي، مما انعكس إيجابا على وضع التعليم العالي هذه السنة من حيث الكَمّ على الأقل، ولمّا تَحِنْ ملاحظة الانعكاسات الكيفية على المخرجات، فإن الوضع يحتم المراجعة حتى لا تذهب تلك الجهود الكبيرة أدراج الرياح.
والله غالب على أمره،
يحيى ولد البيضاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى