الفقيه سيد أحمد سيدي الخليل يكتب .. #يوم_الأدب ـ مجلس أبي شجة

الشاعر أبو شجة زارني قبل يومين في المنزل فطاب الحديث واتقد الشعر..
وقد حرصت على أن أغمد سيف الفقه والأصول وأستل سيف الشعر والأدب مستفهما لا منكرا ومستفيدا لا مفيدا
وفعلتُ ذلك لسببين:
أولا الاستمتاع بشعره الجميل.
ثانيا أن من الأدب مع الضيف أن تبقى معه في تخصصه ولا تذهب به إلى تخصصك.
ولذلك لم ننبس بكلمة واحدة من الفقه باستثناء حكم أكل الأرنب.
يتسم شعر أبي شجة بالفحولة ولغته بالجزالة وحكايته لشعره لا تقعد به بل تزيده وتلك لعمري مزية كبيرة فكم من شاعر تزري بها حكايته وتقول له: ليته سكت، ونفس الشيء يقع للخطيب والمحاضر والمتكلم أيا كان..
في هذا السياق سألتُ أبا شجة ـ عما أخبرني به الجاحظ من قبلُ ـ هل يمكن أن يكون الشاعر عييا لا يكاد يبين؟
فقال لي: نعم، فقلت له: الكتابة والشعر صنوان، ونحن نرى كاتبا لا يقرض الشعر هل يمكن أن نرى شاعرا لا يستطيع كتابة مقال؟!
فقال لي: هاهو بين يديك، – يقصد نفسه – ما كتبتُ مقالا في حياتي ولا أنوي ذلك، بل ما كتبتُ قصيدة وإنما أمليها على الناس.
ثم قال لي إن آفة الشعر: التعليم ـ يقصد مزاولة التعليم العصري ـ والتجارة وإن الشعر لا يرى أحسن من الفراغ..
ثم سألته عن بعض الشعراء فكان مثلي شحيحا في النقاط ثم قلت له: الشاعر الكبير محمد الحافظ ولد أحمدو سمعته في إحدى القنوات يعتب عليك بأنه يثني عليك وعلى شعرك ولكنك لا تفعل ذلك معه ولا تذكره في مجالسك على حد تعبيره ولا شك أنك سمعت ذلك منه وإلا لما نقلته لك، هل الشعراء كالفقهاء تصيبهم الغيرة ويتحاسدون؟
فضحك وقال لي بل الغيرة فيهم أشد والحسد فيهم أنتن، ثم قال لي إنه سمع ذلك العتاب من الشاعر في التلفزيون وسمعه منه مباشرة وقال له: يأخي لمَ تشهر بي فقال له: ليس ذلك تشهيرا وإنما هو “اتحجليب” ثم أثنى على الشاعر الكبير محمد الحافظ وأنشدني مقطوعتين تبادلا فيهما صفو الوداد حيث يقول الشاعر محمد الحافظ:
لُعَاعُ القَوافِي الحُوِّ يومَ تلجَّنا @
بحلقِكَ غَامَ الكونُ شِعْرًا و أدجَنا
فحلَّقتَ في أقصى الشَّواهِق عارِجًا @
تُخَالُ عُقابا من “عَمَايَةَ ” أحْجنا @
يَلَجُّ بك التَّطويحُ في كل نَفْنَفٍ @
فعرِّجْ علينا كيْ تلأليءَ وَهْجَنا
أَبا شَجَّةَ الغِطريفَ يا فَرْدَ عَبْقَرٍ @
و يا قاطفا من سدرة المُنتهى الجَنى
حثَثْنا عَناجيجَ القوافي مُغِذَّةً @
لميقاتِك المُنْتَابِ نبدأُ حَجَّنا @
لِتجْلُوَّنا يا صَيْقَلَ الروحِ و النُّهى @
كأنَّا لآلٍ ماضِغُ اليمِّ مجَّنا
فرد عليه أبو شجَّه:
بعَبْقَرَ كان الشعرُ صِرمةَ ناِشِدِ @
فلمَّا حدوتَ الشعرَ فيها تَعَرْجَنَا@
وَ فَاحَ بِمَا تَحْدُو النُّجُومُ عَرَائِسًا @
فَأخْمَلتَ مَنْ سَدَّى برُشْدٍ وَ مَجَّنَا
تَرُوضُ بآفاق العُلا عنْ كرامةٍ @
عِتَاقَ القوافي ما أجلَّ و أوْجَنَا
لقد كنتَ فيها يا محمَّدُ حافِظا @
شمائلَ لولاها القَرِيضُ تَهجَّنا
فأَجْنيْتَ لي منهنَّ يا شيخَ عبقرٍ @
مَجَانِيَّ أنستْنا من الدهر ما جَنى@
و أبدعتَ نهْجًا أنتَ ألزمتَني به @
فمَنْ ذا على الأيام يَلزَمُ نهجَنَا؟!
فقلت له: لا أحد، ولفت انتباهي أن كلا منهما استفاد من الحديث وأومأ إليه فقول الشاعر محمد الحافظ: لعاع أي اخضرار وبريق وربما استفاده من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: “أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ”؟
وقول الشاعر أبي شجة: “بعبقر كان الشعر صرمة ناشد” الصرمة العدد القليل من الإبل وربما استفاده من قول عمر بن الخطاب كما في الموطإ لمولاه هني: ” يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ: إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا، يَأْتِنِي بِبَنِيهِ “، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا لَكَ، فَالْمَاءُ وَالكَلَأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ”
وأسنسمحكم في هذه الشردة الحديثية أو الفقهية.
وعلى ذكر التلفزة فقد أخبرني أنه شخص إذاعي يستمع إلى الإذاعة اكثر من التلفزة وأنه سمع محاضراتي في الإذاعة قبل رؤيتها في التلفزة وعلل ذلك بأن الإذاعة لا تنزع الخيال بينما التلفزة تنزعه وأنه كان يشبه الجميلات بالقمر فلما رأى صورة القمر عند من يدعي الوصول إليه ندم على ذلك التشبيه.
ثم حان وقت الغداء والصلاة فذهب إلى الميضأة: “لافابو” ليتوضأ وقد كانت مرتفعة جدا يشق على قصار القامة الوضوء فيها فجاءني من عندها منشدا:
وَلما التقى الصفان وَاخْتلف القنا@
نهالاً وَأَسْبَابُ المنايا نهاِلُها@
تبيّن لي أَن القَماءة ذلةٌ @
وَأَن أعزاء الرِّجَال طوالها.
فقلت له ـ وأنا حديث عهد بتدريس الإبدال ـ أليست فيها طيالها؟!
فقال لي: بلى.
و” القماءة” قصر في القامة، ثم قلت له أنت ثالث شخص يشكو هذه الميضأة ولكنك الوحيد الذي شكاها بالأدب.
ثم قال لي إن شيخه في الشعر الفرزدق وأن من تأسس شعره على الفرزدق فقد آوى إلى ركن شديد، ثم قال إن شدة الفرزدق ينبغي أن تلطف بنسيب جرير وغزله، ولا تقرأ هجائياته فهي ركيكة وقحة، ثم إذا أردت أن تتخصص في النسيب وأوصاف البيئة الصحراوية فعليك يغيلان مية ثم اذهب إلى كثير عزة فهو أشعرهم وأحمقهم ثم ادرج إلى الشعراء المخضرمين ثم اذهب إلى بشار بن برد عليه لعنة الله فهو أشعر الإنس والجن ثم اتركه إلى دعبل الخزاعي وأبي نواس.. ثم ادلف إلى ابن الرومي وأبي تمام والبحتري، فقاطعته قائلا: لماذا البحتري شعره أسلس من شعر أبي تمام فشعره لشدة انسيابه كأنه ينحدر من صبب، فقال لي تلك موهبة ولكن أبو تمام أشعر الناس ولذلك لما سئل البحتري عن المقارنة بينهما قال: جيد أبي تمام خير من جيدي ورديئي خير من رديئه، وهذا أصدق حكم فأبو تمام إذا رك لا يطاق لخسة شعره وتعقيده وإذا أجاد لا يتناول لحسن شعره وعبقريته فكأن أباتمام والبحتري وريثان للفرزدق وجرير.
قال: وكان أبو تمام فيه تأتأة: “إتوتي مثلي” ولذلك قال فيه الشاعر:
أنت أشعر الناس ما لم تنطق..
ثم ذكر قول الفرزدق في جريرمعترفا برقة شعره وطلاوته: قبح الله ابن المراغة ما أحوجني إلى رقة شعره مع فجوري وأحوجه إلى صلابة شعري مع عفته.
ثم وصل إلى المتنبي وأصابته هزة وكاد يغمى عليه طربا وإعجابا بالمتنبي فقال لي: شعر المتنبي يعلم الرجول، شعر المتنبي يبعدك عن الضعف، شعر المتنبي يبعدك عن الهوان والذل ثم أنشد قوله:
وللخود منى ساعة، ثم بيننا @
فلاة إلى غير اللقاء تجاب @
وما العشق إلّا غرّة وطماعة@
يعرّض قلب نفسه فيصاب@
وغير فؤادى للغوانى رميّة @
وغير بنانى للرّخاخ ركاب @
تركنا لأطراف القنا كلّ شهوة@
فليس لنا إلّا بهنّ لعاب @
نصرّفه للطّعن فوق سوابح @
قد انقصفت فيهنّ منه كعاب @
أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح@
وخير جليس في الزّمان كتاب
وأنشد قوله في العتب على المشيب:
سقا اللهُ أيامَ الصِّبا ما يسرها @
ويفعلُ فعلَ البابلي المعتَّقِ@
إذا ما لبستُ الدهرَ مستمتعاً به@
تخرقتُ والملبوسُ لم يَتَخَرَّقِ
ثم وشح المتنبي بقوله: “إن الأوابد كلها أحمديات”.
ثم رجع إلى الفرزدق فقال: اسمه همام، وكنيته أبو فراس ولقبه الفرزدق، وذكر قصة تلحين عبد الله له، ورده القاسي عليه الذي يستدل به أبو شجة على التمرد على النحو والاعتناء بالدواوين ولكن بما أن هذه القصيدة من عيون الشعر سأذكر بعضها ثم أرجغ إلى محل الشاهد، يقول الفرزدق:
عَزَفْتَ بِأَعشاشٍ وَمَا كِدْتَ تَعزِفُ@
وَأَنْكَرْتَ مِنْ حدراءَ ما كُنْتَ تَعْرِفُ@
وَلجّ بِكَ الهجْرانُ، حتَّى كَأنّما @
تَرَى المَوْتَ في البَيْتِ الذي كُنْتَ تَأْلَفُ@
لَجَاجَةَ صَرْمٍ، ليسَ بِالوَصْل إنَّما @
أَخُو الوَصْلِ مَنْ يَدْنُو ومن يَتَلَطَّفُ@
وَمُسْتَنْفِرَاتٍ لِلْقُلُوبِ كَأَنّها @
مَهاً حَوْلَ مَنْسُوجَاتِهِ تَتَصَرّفُ@
تَرَاهُنّ مِن فَرْطِ الحياءِ، كَأَنّها@
مراضُ سُلالٍ، أو هوالكُ نُزَّفُ@
وَيَبْذُلْنَ بَعْدَ اليأسِ مِن غَيرِ رِيبَةٍ @
أَحاديثَ تَشْفي المُدْنَفِينَ وَتَشْغَفُ@
إذا هُنّ ساقطنَ الحديثَ حَسِبْتَهُ@
جَنَى النحل، أو أَبكَارَ كرْمٍ تُقَطَّفُ @
مَوَانِعُ لِلأسْرارِ، إلاّ لأهْلِها@
وَيُخلِفنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ المُشَفْشِفُ@
إذا القُنبُضاتُ السودُ طوّفنَ بالضّحَى@
رَقدْنَ عليهِنّ الحِجَالُ المسجَّفُ@
وإنْ نَبّهَتْهُنّ الولائدُ، بَعْدما @
تَصَعَّدَ يَوْمُ الصّيْفِ، أو كادَ يَنْصُفُ@
دعونَ بِقُضْبَانِ الأرَاكِ التي جَنَى@
لها الرَّكْبُ من نَعْمَانَ أيّامَ عَرّفُوا@
فَمِحْنَ بِهِ عَذْبَ الثَنَايَا رُضَابُهُ@
رِقاقٌ، وأعلى حَيْثُ رُكّبنَ أَعجفُ@
وإنْ نُبِّهتْ حَدراءُ من نَوْمَةِ الضحى@
دَعَتْ وَعليها مِرطُ خَزّ وَمِطْرَفُ@
بِأَخْضَرَ مِنْ نَعْمَانَ ثمّ جَلَتْ بِهِ@
عِذاَبَ الثّنَايا طَيّباً يَتَرَشَّفُ..
إلى أن يقول متخلصا:
إليكَ أَميرَ المؤمِنينَ رَمَتْ بنا @
هُمُومُ المُنى وَالهَوْجَلُ المُتَعَسِّفُ@
وَعَضُّ زَمَانٍ يا ابنَ مروانَ لم يدع @
مِنَ المالِ إلا مُسحَتاً أَو مُجَلَّفُ.
فقال عبد الله بن أبي إِسْحَاق للفرزدق: بِمَ رفعت “أَو مجلف” فَقَالَ: بِمَا يسوؤك وينوؤك علينا أَن نقُول وَعَلَيْكُم أَن تتأولوا.
ثم قال له والله لأهجونك ببيت يكون مشغلة لأمثالك من أهل النحو إلى يوم القيامة فقال له:
فلو كان عبد الله مولى هجوته@
ولكن عبد الله مولى مواليا
ويعلق أبو شجة قائلا: فكان هذا مشغلة لابن عقيل وأضرابه.
غير أن عبد الله قال له: أردت هجوي فلحنت، والحقيقة أن المتبادر أن هذا منقوص ارتكبت فيه الضرورة ولكن إذا كان الفرزدق يقصدق أن عبد الله مولى مواليه هو فقد أصبحنا أمام منقوص مضاف إلى ياء النفس أو إلى ياء المتكلم؛وذلك تكون ياء المتكلم فيه مفتوحة رفعا ونصبا وجرا؛ ولم نعد أمام منقوص منكر، غير أن أبا شجة كالفرزدق لا يلقي بالا لأهل النحو ههه ولهذا لما قدمت له هذا التفسير قال لي: لو أدمنت قراءة الدواوين لتزندقت على النحو، وكأن لسان حاله ينشد قول الشاعر:
ولست بنحوي يلوك لسانه@
ولكن سليقي أقول فأعرب.
ثم قال لي عينية ابن زريق جميلة لولا المسكنة التي تطبعها والهوان الذي يكتسيها انظر الفرق بينه وبين عنترة حيث يقول في مقام الحب أيضا:
وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ@
مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي@
فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها@
لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ.
فقارن بينه وبين قول ابن زريق البغدادي:
لا تَعْذُليهِ فإنّ العَذلَ يولِعُهُ@
قد قلتِ حقّاً،ولكن ليس يسمعُهُ.@
جاوَزْتِ في نُصْحِهِ حدّاً أضرّ بِهِ@
من حيثُ قَدّرْتِ أن النصْحَ ينفعه.
تجد أن عنترة رجل عاشق شجاع وابن زريق عاشق مسكين يتباكى، ثم أنشدني من شعره ما يرفض فيه التباكي حيث يقول:
وقد كنت أبّاء الدموع فهاجني…
ثم أنشدني قصيدة جميلة له في رثاء لمرابط العلامة محمد سالم ولد عدود، وذكر لي أنه يشهد للفتى العبقري جمال ولد الحسن بالورع وهي شهادة لها قيمتها إذ يبدو أن ذلك يخفى على غير عارفيه إذ غالبا ما تكون الشهادة له بالفتوة والعبقرية، ويغيب هذا الجانب..
وبقي كثير من هذا المجلس الذي اشتمل على الإمتاع والمؤانسة من طرف هذا الشاعر الكبير.
وأخيرا فإن مما يتميز به هذا الشاعر الفحل الذي يتنفس الشعر: أريحيته وطيب أخلاقه ومما لا يعرف عنه الكثيرون أنه صوفي شاذلي، وأنه لا يعرف قيادة السيارة ولكنه يعرف قيادة الكلمة والقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى