سوريا ساحة للتصعيد العسكري من جديد؟
أحمد الدرزي
كان من الواضح أن العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها موسكو؛ لمواجهة تمدد “الناتو” في أوكرانيا، لم تستطع أن تنجح في الضربة القاضية، كما توقع العسكريون الروس وغيرهم بدايةً، مثلما فشل الأميركيون أيضاً في ما أعدّوا له استعداداً للحرب على أيدي الأوكرانيين، منذ عام 2014، بهزيمة ساحقة للروس، بالاعتماد على مبدأ الحروب غير المتماثلة، والتفوق العددي للأوكرانيين بثلاثة أضعاف القوة المهاجمة، ما دفع الطرفين إلى التفكير في الانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة، فهل تنتقل إلى الساحة السورية؟
أدّت الحرب الأوكرانية إلى حالة استقطاب دولي، لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية، ما زاد من المسافة بين الشرق والغرب، ودفع إلى مزيد من التحولات المتسارعة، بما يمكن أن تمثله نتائج الحرب في أوكرانيا، والتي يمكن أن تدفع بها نحو تجاوز الحدود، خارج ساحة الصراع الحالية.
ولَم يكن إعلان الرئيس بوتين عن تفوق روسيا على دول حلف “الناتو” مجتمعةً، وتزويده القوات الروسية في أوكرانيا بصواريخ سارمات وزيركون فرط الصوتية الاستراتيجية، إلا استباقاً لقرار البيت الأبيض تزويد أوكرانيا بصواريخ باتريوت، بعد زيارة الرئيس الأوكراني زيلينسكي لواشنطن، واحتضان بايدن له، مع تأمين حزمة مساعدات أميركية لمدة 3 سنوات، ما يؤكد خطة واشنطن لتوسيع ساحات الحرب في كل الأمكنة الممكنة، ويمكّن من هزيمة القوى الآسيوية الصاعدة.
وبطبيعة الحال، فإن الساحة السورية تمثل أهم ساحات المواجهة، لمجموعة من الاعتبارات، فهي تعدّ ساحة الصدّ الآسيوية الأهم في غرب آسيا، والممر الأساسي للسلاح نحو جنوب لبنان والضفة الغربية وبقية فلسطين، ما يمثل تهديداً للكيان الإسرائيلي، خاصةً بعد تصاعد عمليات المقاومة في الضفة الغربية، وهي الساحة الأساسية والأولى، التي اجتمع فيها الإيرانيون والروس، لمواجهة الإرهاب القادم من بقاع الأرض، دفاعاً عن أمنهما القومي، قبل أن يجتمعا من جديد، وفق الاتهامات الأميركية، في أوكرانيا، ضمن “شراكة أمنية دفاعية كاملة”، حسب توصيف الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي، وهي إذا ما استطاعت هزيمتهما معاً في سوريا بعمليات استنزافية مديدة، فإن ذلك سينعكس على الداخل الروسي والإيراني، ولن تنجو الصين من ذلك أيضاً.
ترتكز الخطة الأميركية على مجموعة من الاعتبارات:
أولها، أنها لن تقاتل بقواتها بشكل مباشر، بعد القرار الذي اتخذته عام 2008، عقب تجربتها المُرَّة في العراق، واعتمادها حروب الجيل الرابع.
ثاني الاعتبارات هو عدم الثقة بإمكانية دفع “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا، إلى قتال الجيوش السورية والروسية والإيرانية في سوريا، وهي التي أبدت حرصها الكامل على عدم الصدام منذ لحظة تأسيسها وحتى الآن، مع قوى الدول الثلاث.
والثالث هو وجود القوات الأميركية في منطقة التنف، على الحدود السورية-العراقية-الأردنية، ووجود قوات مغاوير الثورة التي تعمل تحت المظلة الأميركية، بالإضافة إلى قربها من منطقتي السويداء ودرعا.
والاعتبار الرابع هو استمرار الاضطرابات الأمنية في منطقة درعا، وعودة المجموعات المسلحة إلى العمل، بما جعلها خارج السيطرة الفعلية لدمشق، وبقيت تحت النفوذ الأردني-الخليجي لمصلحة أمن “إسرائيل”.
أما الاعتبار الخامس فهو منطقة شمال غرب سوريا، حيث تتركز المجموعات الجهادية الأخطر، التي يمكن التعويل عليها، في حال قبلت بذلك تركيا القادمة على انتخابات رئاسية حاسمة.
والأمر لم يتوقف على التخطيط، بل سارع الأميركيون إلى البدء بخطتهم ابتداءً من الشمال والجنوب عسكرياً، حيث أعادوا الحياة إلى فصيل “ثوار الرقة”، بـ 3 آلاف عنصر مبدئياً، وتمويله وإمداده بالسلاح مباشرةً، ليؤدي دوراً باستقطاب العرب في شرق الفرات، والعمل على منع دمشق وطهران من تشكيل مقاومة فاعلة تعتمد على العشائر العربية، بالإضافة إلى الدخول بعملية مواجهة مع الجيش السوري وحلفائه في شمال وجنوب الجزيرة السورية.
وفِي التنف حيث أقالوا قائد مغاوير الثورة، مهند الطلَّاع، وعيّنوا محمد فريد قاسم بدلاً منه، وباشروا في تدريب المجموعات المسلحة، مع إزالة الألغام من ريف البادية وصولاً إلى ريف السويداء، في خطة واضحة لربط المنطقة الجنوبية، من حدود الجولان المحتل والأردن إلى التنف، ما يقطع الحدود السورية- الأردنية، ويزيد الضغوط على دمشق أمنياً وعسكرياً في منطقة الجنوب التي لا تبعد عن العاصمة السورية أكثر من 60 كم، وخاصةً بعد عودة تفعيل غرفة الموك في الأردن من جديد، وزيادة الأعمال الأمنية للمجموعات المسلحة، التي حمتها المصالحات المبتسرة، إثر الاتفاق الروسي- الأميركي- الإسرائيلي عام 2018.
والأمر لم يتوقف عند العمل الأمني والعسكري، الذي ترافق مع تسريبات لتهديدات إسرائيلية، بتدمير كل المطارات السورية، بذريعة استخدامها لهبوط الطائرات الإيرانية المحملة بالسلاح، بل ترافق مع مزيد من الضغوط الاقتصادية، بالضغط على الليرة السورية مقابل الدولار، ما رتّب مزيداً من الضغوط الاقتصادية على السوريين، في ظل انخفاض مستوى المساعدات الإيرانية بعد الاضطرابات الأخيرة، وغياب المساعدات الروسية بالأساس، وغياب كامل لدورة الإنتاج للاقتصاد الطبيعي، والعمل على إصدار قانون عقوبات جديد، يفاقم الضغوط الاقتصادية.
من الواضح أن الولايات المتحدة تخلت عن سياسات الإبقاء على سوريا بوضعها الحالي، الذي يمنعها من التعافي، بين اللاحرب واللاسلم، والعمل على انتقالها إلى ساحة مواجهة نارية من جديد مع كل من روسيا وإيران، وبطبيعة الحال مع سوريا المنقسمة.
وهذا الأمر لا يغيب عن العواصم الثلاث المُستهدفة، من الناحيتين العسكرية والأمنية، ولا بد من وجود خطط مواجهة لها، لمنعها من الحدوث، أو لإفشالها في حال انطلاقها.
ولكن الأمر يحتاج إلى التخفيف من الضغوط الهائلة على السوريين الباقين في الداخل، وتوفير أساسيات الحياة الضرورية لاستمرارهم، وهذه مسؤولية كل الدول التي تخشى من نجاح الأميركيين في استمرار هيمنتهم على العالم، وخاصةً الدول الآسيوية الصاعدة، روسيا والصين وإيران، بالإضافة إلى تغيير مناخ إدارة العمل الداخلي، الذي يمكنه التخفيف من آثار الحصار بأنواعه المختلفة.
والعمل الأهم من ذلك لإحباط المشروع الأميركي المتجدد في سوريا هو باستهداف الأميركيين مباشرةً في كل من سوريا والعراق، والعمل على زعزعة الأمن الإسرائيلي بشكل متصاعد، بما يكبح الأميركيين والإسرائيليين، وهذا ممكن ويتم العمل عليه، وإن كان في الحد الأدنى.