اللغة الصنهاجية : استدعاء من منظور انتروبولوجي لا ايديولوجي .

بقلم الكاتب والمفكر محمد شيخنا

حضرت بالأمس بقاعة المتحف الوطني محاضرة قيمة قدمها الأستاذ المغربي الدكتور سعيد كويس رئيس مركز “تكوصت” للتوثيق حول المشترك الثقافي الحساني الأمازيغي وحضرها لفيف من المثقفين والمهتمين .
وقد لفت انتباهي ما جاء عليه المحاضر من تأثيرات للغة الأمازيغية (لا سيما تشلحيت) على الحسانية من حيث مسميات الأمكنة والأشياء ومن حيث ما تم رصده من قواعد مطردة في قلب بعض الحروف بأخرى بل حتى من حيث قولبة الكلمات العربية ضمن صيغ صرفية أمازيغية .
و قد زاد أحد كبار المختصين الموريتانيين و هو الأستاذ الباحث يحيي ولد البراء ، ضمن أمور أخرى ، مسألة غريبة متعلقة بتصغير الأفعال والتي لا توجد كما قال إلا في الحسانية و هو يعيدها إلى تأثيرات لغوية صنهاجية على الأرجح ؟
من جهة أخرى استطرد المحاضر بشأن التأثيرات الأمازيغية أيضا ما تعلق بالموسيقى الحسانية على مستوى ما أسماه “السرمة” و”القدعة”.
وتمنى المحاضر على الباحثين الموريتانيين الانفتاح على الخارج ولا سيما المغرب وتحديدا منطقة السوس حيث اللغة (تشلحيت) هي الأقرب لما كان متحدثا به في موريتانيا قديما من لغة صنهاجية (كلام آزناكه ) وذلك لفهم أفضل لمعاني اللغة (اللهجة ) الحسانية ومكامن التفاعل داخل الشعر اللهجي (لغن الحساني) .
وقد نوه أحد المتدخلين الموريتانيين من الباحثين في التاريخ بأهمية هذه الدعوة للتطلع إلى الخارج والجوار لفهم مفرداتنا وسياقاتنا على اعتبار أن الحدود الثقافية أوسع من الحدود السيادية بل ذهب أبعد من ذلك إلى أهمية تعميم هذه الدعوة الانفتاحية على المحيط لتكملة الصورة التاريخية إذ لا يمكن فصل تاريخ أي مجال وطني بالكلية أو مقاربته بمعزل عن
الجوار . فمثلا بالنسبة لبلادنا تبقى تواريخ مجالات أخرى ذات أهمية كبرى مثلا : فوتا – كرطه – سيقو -أزواد – توات – تافيلالت و واد نون و السوس .
ولعل أهمية ذلك تكمن فيما قد يسلطه من أضواء كاشفة على فترة شبه الظلام التاربخي عندنا ، كما بصفه البعض ،
و الذي اكتنف القرون التي تلت سقوط الدولة المرابطية .
والسؤال الجوهري و المشروع هو لماذا علينا أن نبحث في أمازيغيات الخارج لفهم مفرداتنا وسياقنا الثقافية؟
أليس أولى أن نتطلع إلى ذواتنا
ونبحث فيما بقي لدينا من تلك الصنهاحية على وشك التواري وذلك لانتشالها من الاندثار ، لا سيما أن جيوبا وبقايا منها لا تزال بها رمق ؟
ألا ينبغي أن نسعى من باب الحفاظ على التنوع الذي بموجبه هناك مؤسسات قائمة للمحافظة الدلافين وعلى الخنازير البرية أن نبعث روحا ولو في إطار أكاديمي و جد محلي من أجل” استرجاع ” جزء من لغة تاريخية للبلد تكلمها ذات مرة أجداد لنا من الأب أو من الأم أو من الإثنين ولا زالت حاضرة في تخاطبنا دون أن نعرف ماهية بعض كلماتها ودلالاتها؟
أما يكفينا تلك المحنة الثقافية التي بموجبها فقدنا لهجة كانت متداولة في حواضر عمراننا التاريخية ألا وهي لغة “آزير ” التي هي كما يقال مزيج ما بين السوننكية و العربية و الصنهاجية مما يعني أنها كانت لغة (لهجة ) هجينة وانتقالية تظهر صيرورة التفاعل والتمازج بين المكونات عبر الزمان والمكان والتلاقح.

أليس من الممكن والمفيد خوض المحاولة لبعث روح في هذه اللغة ضمن سياق مهرجان مدائن التراث لا سيما أنه لا زال هناك ما يمكن البناء عليه والانطلاق منه مثل بضع مئات من كلماتها التي كان قد سجلها عالم الآثار الفرنسي تيودور مونود Theodore Monod وبعض الأشرطة الصوتية لدى
المعهد الموريتاني للبحث العلمي .
إن مثل هذا القول ليس دعوة لبعث شوفينية نائمة أو ضرب هوية جامعة أو أي تهديد لمكانة العربية الراسخة لأن أحفاد الناطقين بالصنهاجية هم السدنة الحقيقيون للغة الضاد .
الموضوع في حقيقته ومقصده
مطلب انتروبولوجي وليس إيديولوجيا بالمرة.
ففضلا عن الثراء الألسني بها فإن موريتانيا أيضا جميلة بتنوع سحناتها التي تغطي كامل الطيف من الأكثر بياضا كالأوروبي إلى الأكثر سوادا كالافريقي الاستوائي وهو تنوع أصلي و ليس طارئا مصطنعا بفعل هجرات حديثة كما هو الحال بأمريكا وغيرها.
تخيلوا كم سنخسر لو كنا بيضا كلا أو سودا جميعا في موريتانيا .
وكم هم واهمون أولئك الذين يعتقدون بأن النقاء العرقي أو اللوني يحقق استقرارا بالضرورة (و الأمثلة كثيرة ) وإنما النجاح و الإقلاع و الاستقرار يكون بالعدل وقوة المؤسسات وروح الأخوة الوطنية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى