الأسرى الفلسطينيون من الإهمال الطبي إلى الإعدام بقانون
إعدام الأسرى منهج متواصل منذ أن أقيمت “إسرائيل”، ويتم بخبث وخداع شديد. يكفي لتبيّن ذلك النهج الوقوف على جريمة إعدام الأسير يحيى الناطور بعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاق “أوسلو”.
أوغل الإنكليز قبل الصهاينة في إعدام الأسرى الفلسطينيين عبر جهاز القضاء العسكري، وفي محاكمات رسمية، لتشكّل مناسبات الإعدام فصولاً لتأجيج الكفاح ضد المحتل. وقد حفظت فلسطين من بحرها إلى نهرها أسماء الشهداء عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، واحتفت بهم حتى اليوم، بعدما أعدمهم الإنكليز في سجن عكا سنة 1930.
وقد أدرك الكيان الإسرائيلي خطورة عمليات الإعدام وأثرها في تعزيز المقاومة، فحرص على تجنبها، وإن أوغل فيها بطرق شتى عبر الاغتيالات والقتل على الحواجز وخلال الاعتقالات، وحتى داخل قلاع الأسر، ولكن بخبث تعددت أشكاله وأدواته.
تجاوز عدد الأسرى الفلسطينيين الذين تم إعدامهم ببطء خلف جدران السجون 223 أسيراً، قتلوا بجرعات تخدير طبيّ محسومة النتائج أو عبر الضرب والتعذيب أو الإطعام بالقوة (الزوندا)، وما زال المحتل يحتفظ بجثامين 11 أسيراً منهم، آخرهم القائد ناصر أبو حميد، الذي قضى بعد رحلة معاناة، وهو ينتمي إلى عائلة مكافحة، أحد أبنائها استشهد بعد قتله ضابطاً في الشاباك، و4 منهم حكموا بالسجن المؤبد لقتلهم جنوداً ومستوطنين إسرائيليين.
حرص الكيان الإسرائيلي طوال عقود خلت على التستر خلف قوانين ابتدعها وتماهى فيها مع النموذج الأوروبي، وهو ما ساهم في تجنب سنّ قوانين رسمية لإعدام الأسرى للظهور بمظهر حضاري، رغم أن طبيعة الكيان العنصرية كانت تفضحه صباحاً ومساء، وأجهزته الأمنية تمارس شتى أنواع الإجرام بحق الإنسان الفلسطيني والعربي.
ولعل هذا يفسر منع حزب الليكود اليميني، على تطرفه الشديد، دخول غلاة المتطرفين اليهود إلى الكنيست سنة 1984، حين تم طرد كهانا وحظر حزبه ووضعه تحت مراقبة الشاباك، باعتباره خطراً ماثلاً على نسيج المجتمع العبري.
كشف نتنياهو في الآونة الأخيرة وجه المجتمع العبري الحقيقي، بعد فشله في سلسلة انتخابات تشريعية ظل يصرّ على إجرائها على مدار فترات زمنية متقاربة، حتى نال مبتغاه في خامستها، طمعاً بالزعامة الدائمة، وحرصاً على تجنب محاكمته بتهم دامغة بالفساد، فأخرج مارد غلاة التطرف من قمقمه، وسنّ لهم 3 قوانين أحدث فيها تعديلات جوهرية مسّت بـ”هيبة القضاء والجيش”، وبدأ التمهيد لسن قانون إعدام الأسرى، عندما سمح لزعيم حزب “القوة اليهودية” إيتمار بن غفير بالترويج الرسمي لهذا القانون الوحشي.
سبق لوزير المالية المنصرم أفيغدور ليبرمان أن قدّم للكنيست مقترحاً بسن قانون لإعدام الأسرى، وهو ما تم رفضه في حينه للأسباب المذكورة، وهي ذاتها التي دفعت بعض كبار الشاباك و”الجيش” إلى التعبير عن رفض قانون كهذا في الوقت الحالي، ولكن بن غفير تبجّح قبل أيام متفاخراً بالتكليف الذي أخذه من نتنياهو، فهل يتراجع قادة الشاباك و”الجيش” والشرطة عن رفضهم المبدئي لهذا القانون؟
بلغ عدد الأسرى الذين قضوا خلال التحقيق معهم في أقبية الشاباك 73 أسيراً، وخصوصاً من تعرضوا للتحقيق تحت قانون “التحقيق العسكري” المدعوم بالقضاء الرسمي، والقائمة تطول، من إبراهيم الراعي وخالد الشيخ علي وعبد الصمد حريزات، حتى عرفات جرادات الذي تم تعذيبه في غرف العملاء التابعة للشاباك حتى استشهد، أو الذين أصيبوا بالشلل بسبب التعذيب على يد محققي الشاباك، مثل لؤي الأشقر، الذي استشهد شقيقه محمد بالضرب العنيف على يد قوات “متسادا” الخاصة خلال اقتحام أقسام الأسرى في معتقل النقب الصحراوي.
إعدام الأسرى منهج متواصل منذ أن أقيم الكيان العبري، ويتم بخبث وخداع شديد. يكفي لتبيّن ذلك النهج الوقوف على جريمة إعدام الأسير يحيى الناطور في سجن جنيد، بعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاق “أوسلو” في نهاية عام 1993، وفي أجواء الإفراج عن آلاف الأسرى تبعاً لذاك الاتفاق، وهو مثال بارز لفهم طبيعة الإهمال الطبي المؤدي إلى القتل.
وقد كنت شخصياً رفيق الناطور في زنزانته في ذلك الوقت، إذ كان يعاني أوجاعاً شديدة في خاصرته، ما دفع السجانين إلى اقتياده إلى عيادة السجن عدة مرات، في ظل ضغوطات قيادة الأسرى على إدارة السجن، لإخضاعه لفحص طبي طبقي لفهم سبب هذه الأوجاع، وكانت الإدارة تبدي حرصاً على الهدوء نظراً إلى الظرف السياسي السائد.
ظلّت الأوجاع تصاحب يحيى الناطور، وطبيب السجن يصرّ على أن مشكلته نفسية، وهو يتألم من دون فائدة حتى استشهد. وعند التحقيق في القضية، اعترفت إدارة السجن بأن الطبيب لم يقرأ نتيجة الفحص التي أكدت وجود جرح حاد في المرارة، فاستنتج أن مشكلة الأسير نفسية، ولكن هل تعرّض هذا الطبيب لمحاكمة أو أدنى عقاب؟ بالتأكيد، لم يحصل معه شيء، وربما تمت ترقيته، ما يطرح سؤالاً عن دور الجهاز الطبّي في مصلحة السجون في تمرير إعدامات سرّية في السجون الإسرائيلية.
سارع بن غفير بصفته المسمى لوزارة “الأمن القومي” إلى الكشف عن بعض خططه ضد الأسرى، نظراً إلى كون السجون تحت سلطة هذه الوزارة. ولعل أخطر هذه الخطط هو سنّ قانون رسمي يسمح للقضاء الإسرائيلي بإصدار أحكام بالإعدام بحقهم، فهل ينجح بن غفير ومن خلفه التحالف الخماسي (الليكود، شاس، يهودوت، عوتسماه، الصهيونية) في سنّ قانون كهذا؟
ثمة موانع حالت سابقاً دون فرض قانون كهذا لإعدام الأسرى، وهي موانع ما زالت قائمة، لكن تطور الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وما أفرزته من سيطرة اليمين الديني المتطرف، الذي انتقل من كونه منظمة تخريبية يتم تتبعها من خلال الشاباك إلى كتلة نيابية كبيرة وجزء رئيس في الائتلاف الحكومي يسيطر على الشرطة ومعها مصلحة السجون، ولها وزير في وزارة “الأمن” بما يخضع الضفة الغربية لسيطرتها، إضافةً إلى وزارة المالية، يمكّن من تجاوز هذه الموانع أو تهميش محدداتها.
هذا التطور جعل نتنياهو، على عجرفته، رهيناً لغلاة اليمين، بما أقلق قيادة “الجيش” والشرطة والقضاء، وحتى بعض أركان “الليكود”، ناهيك بالقوى الدولية، وهو ما قد يسمح بسنّ قوانين تتجاوز ضم الضفة الغربية وإعدام الأسرى، إلا إذا نجحت السياسة الأميركية في كبح جماح هذا الغلوّ تبعاً لمعاييرها في ضبط إيقاع الميدان السياسي والأمني في الشرق الأوسط، بما لا يشغلها عن الحرب في أوكرانيا والتحديات في تايوان والصراع مع إيران، وهو نجاح أميركي محتمل لكنه غير مضمون، في ظل ضعف الإدارة الأميركية وتضارب مصالحها وتناقض أولوياتها أو تطور ميدان المواجهة في الضفة أو غزة أو مع محور المقاومة، بما يربك أولويات نتنياهو وحكومته المتشنجة