عام على حرب المفاجآت والتقلبات . بقلم الكاتب محمد شيخنا
في غضون أيام تحل الذكرى الأولى لأطول وأشرس و ربما أيضا أغرب حرب تعاني منها أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية .
إنها الحربة الروسية – الأوكرانية المستعرة .
عديدة هي أوجه الغرابة التي تتجلى من خلال هذه الحرب و في وجوه شتى :
– أولا ، هذه الحرب لا يدري أحد يقينا كيف يصنفها أو يحكم عليها :
فهل هي حرب استباقية إجهاضية و من باب الدفاع عن النفس ؟ كما يقول عنها الروس ؛ أم أنها حرب امبراطورية ،
امبريالية و عدوانية ؟ كما يصفها الغرب . الأكيد أن بعض الأطراف الغربية دفعت إليها أو على الأقل لم تسع بصدق في تلافيها ؛
أما موسكو فالبديهي أنها من أطلقت شرارتها و أوقدت أوارها .
– ثانيا ، هذه حرب تقليدية بين جيوش لكنها أيضا حرب بظلال غير نمطية فهي حرب يشترك فيها المرتزقة والسجناء والشركات الخصوصية (فاغنر) ؛
– ثالثا ، أيضا هذه حرب تقانية متقدمة بوسائط غير مأهولة لكنها على الأرض تخاض بإلتحامات الكتائب و الجنود ، الدامية على الميدان مذكرة بحرب الخنادق خلال الحرب العالمية الأولى و معارك كسب الأمتار بأثمان بشرية باهظة بعيدا عن حرب الحركة والمناورة والالتفاف والتطويق والاندفاعات الكبرى كما جرى في حربي الخليج الأمريكيتين على العراق وغيرهما من الحروب الميكانيكية الحديثة ؛
– رابعا ، هي حرب عالمية بمشاركيها وتأثيراتها لكنها تجري محصورة في مسرح عمليات إقليمي محدود ؛
– خامسا و أخيرا هذه حرب متدحرجة التصعيد و لكنها مع ذلك تخاض بوتيرة متسارعة بل أحيانا صاعقة .
و اللافت أنها حرب تجري تقريبا على المكشوف ، لكلا جانبيها ، إذ جميع أدواتها وفعالياتها بارزة و مرصودة تماما على مدار الساعة و بأدق تفاصيل الصورة و الصوت
و الموقع عبر طبقات متراكبة من وسائل المراقبة (الجو – فضائية) و كذلك عبر التصنت اللصيق والحثيث من طيف واسع من الوسائط التكنولوجية المختلفة والمتقدمة مع ما يكمل كل ذلك على الأرض ومن داخل حوزة الخصم من شبكات الجواسيس و المخبرين .
ولعل المستور فيها هو النوايا التي في الصدور قبل مباشرة تنفيذها وإن كان هناك من الخبراء والمختصين من يخمنها أحيانا وبدقة ويستدل عليها بالتحضيرات .
و مع كل هذا أو و رغما عنه فهذه الحرب يمكن اعتبارها حرب المفاجآت الصادمة المتواترة و المستمرة :
1- ابتداء ، لم يكن أحد يعتقد بداية العام الماضي 2022م بإمكانية خوض حرب مفتوحة ، و في أوروبا ذاتها ، من أجل مكاسب إقليمية توسعية صريحة ؛
2 – و حتى لحظة وقوع الضربة الروسية الأولى بالطائرات و بالصواريخ المجنحة (كروز) صبيحة 24 فبراير 2022 م فقد كانت بعض من الاستخبارات الغربية (كالفرنسية مثلا) لا تزال تعتقد بترجيح عدم إمكانية أو حتمية الحرب ؛
3 – أما بالنسبة للدول التي اعتقدت بحتمية وقوع الحرب على ضوء الحشود الكبيرة وأوضاع انتشارها القتالي وربما عبر معلومات استخبارية موثوقة خاصة بها
و تصرفت على ضوء ذلك كالولايات المتحدة مثلا التي نقلت سفارتها إلى مدينة “لفيف” في الغرب قرب الحدود البولندية ووضعت خطة لإجلاء الرئيس زيلنسكي وحكومته ليشكلوا حكومة منفى على اعتبار أن أوكرانيا ستخر لا محالة في غضون أيام فقد أذهلها سير الأمور المتثاقل بل الفاشل على الارض بعد انكشاف الغيب .
لقد كانت التقديرات الأمريكية المرجحة
و التي سربت في وسائل الإعلام تفترض وقوع هجمات روسية متزامنة ، مرعبة
ومشتتة للانتباه من جهات متعددة ، كعلى سبيل المثال :
– هجوم من محاور عدة من الشرق عبر الدونباس و آخر من جهة جزيرة القرم ، مع إنزال برمائي من الشاطئ الجنوبي نحو ميناء “أوديسا ” على البحر الأسود ينفذه الأسطول ، و إنزال استراتيجي بالمظليين في الوسط للاستيلاء على المطارات والنقاط الحيوية في انتظار وصول أرتال القوات البرية .
وهجمات من محاور عدة عبر أراضي روسيا البيضاء (بيلاروسيا ) الحليفة و التي تشكل حدودها القريبة منصة اتقضاض مواتية على العاصمة “إكييف” والوسط الأكراني ،
لا سيما أن القوات الروسية التي كانت تجري مناورات هناك لم تغادر أبدا عائدة لروسيا .
بل و ربما أيضا ، حتى مع ما قد يسببه من إشكالات دولية وحتى من تداعيات خطرة هناك إمكانية لحصول هجوم مساند من الجنوب الغربي انطلاقا الجيب الذي تسيطر عليه روسيا في مولدافيا (اترانسنيستيريا ).
كل ذلك ضمن غلالة من القصف الجوي والبحري من الصواريخ البالستية والمجنحة (الجوالة /كروز) التقليدية والفرط صوتية بحيث لا تترك مثل تلك الوتيرة الهجومية الصاعقة والمتصاعدة أية فرصة للاستفاقة أو لمقاومة أوكرانية قبل الوصول إلى “كييف” العاصمة وتنصيب حكومة موالية .
فقط ، كانت مراهنة الغرب على الوقت وعلى صعوبات السيطرة الفعلية ومسك الأرض الشاسعة لأوكرانيا و على ضوء ما سيصير لاحقا وحتميا من استمرار للمقاومة العسكرية النظامية المتبقية (résiduelle) و قيام حرب عصابات مسلحة و أيضا ربما انبثاق مقاومة أنصار شعبية واسعة ومرهقة في بلد يقطنه عشرات الملايين من السكان (44 مليون ) ؛ هذا فضلا عن حيازة المشروعية السياسية عبر حكومة منفى في الخارج هي المنتخبة في الأصل والحاصلة على اعتراف دولي .
لقدكانت تلك التقديرات الأمريكية والغربية مفرطة جدا في التفاؤل مما عليه أداء الجيش الروسي و لما ستكون عليه كفاءته في تنفيذ عملية غزو واسعة النطاق ومخطط لها بعناية ؛ لكن ذلك كان أبعد ما يكون عن الحقيقة و عما حصل بالفعل من مظاهر الترنح والقصور القيادي
واللوجيستي و التنظيمي .
لقد برزت بوادر الصعاب منذ الأيام الأولى ولا سيما في فشل عملية السيطرة على مطار “آنتونوف” العسكري قرب “اكييف” ثم في ذلك الرتل الغريب من الدبابات والعربات الممتد لعشرات الكيلومترات والمتوقف لعدة أيام تتصيده الطائرات المسيرة التركية بيرقدار TB2 وصواريخ جافلين الأمريكية و NLAW البريطانية .
4 – لقد كان من الأمور المفاجئة على الخصوص هو موقف الصمود غير المتوقع من الرئيس زيلنسكي – ذلك الممثل الكوميدي الذي لم يكن أحد يأخذه على محمل الجد – لكنه مع ذلك وخلافا للتوقعات رفض – خادم الشعب و هذا هو إسم حزبه
وإسم دوره في التمثيل الذي رفع صيته – مغادرة العاصمة “كييف” وتشبث بالبقاء والمقاومة رغم نصائح بل إلحاح الأمريكيين في اليوم الأول عليه بالمباشرة في إخراجه .
ولا شك أن موقفه ذاك قد أسهم بقدر كبير في تماسك الوضع الميداني ورفع معنويات شعبه ومراجعة الحلفاء لحساباتهم .
5 – كانت صيرورة مسار الحرب حبلى هي الأخرى بالتطورات الحادة بل المشوبة أحيانا بالدراما .
فمن الجهة الروسية كانت أصعب الأوقات حين انكفأت القوات عن “كييف” في
(19 مارس ) منسحبة بعد أسابيع من محاولة الاستيلاء عليهاوأيضا أوان الهجوم المضاد الأوكراني في الخريف ( سبتمبر ،أكتوبر و نوفمبر ) و حين تم قنص الجنرالات بناء على معلومات أمريكية مسربة للأوكرانيين عن مواقعهم وحين جرى تبديل القيادة العامة للحملة باستمرار و بوتيرة غير معهودة تشي بالتخبط دون أن ننسى الطعنات في الكبرياء عبر تفجير جسر القرم الواصل للمنطقة بالبر الروسي و كذلك تفجير الطراد “موسكوفا” الذي هو سفينة قيادة أسطول البحر الأسود وأقوى سفينة سطح (Capital Ship) في البحرية الروسية .
أما بالنسبة لأوكرانيا فبعد تجاوز صدمة الأيام الأولى فتعتبر الحلقات الأكثر إيلاما
– و إن كانت آلام وأحزان و خسائر أوكرانيا لا تنقضي أو تحصر – فهي السيطرة على مصنع “آزوفستال” وميناء مدينة “ماريوبول” مما أفقد البلد نهائيا الواجهة البحرية على بحر “آزوف” و كذلك الانتقام المدمر بعد الهجوم على الجسر و الذي استهدف البنية التحتية الحيوية مما جعل البلاد تغرق في الظلام والبرد والحرمان ويضاعف الأوجاع في عز الشتاء .
وطبعا لا ينبغي أن نغفل شدة الوطأة في هذه الأيام حيث تمر أوكرانيا بلحظات عصيبة فهي تكاد تفقد السيطرة على مدينة “باخموت” ذات الرمزية كمقاومة مستبسلة بعد سقوط مدن أخرى حولها وأيضا و هذا هو الأهم حالة الترقب لهجوم كبير منتظر هذا الربيع و الذي من فترة تعد له موسكو حثيثا وتراهن عليه في حسم الأمور و كسر حالة الاستعصاء وتجاوز المراوحة و ذلك استباقا بالتأكيد لوصول الأسلحة الهجومية الغربية الموعودة ل”كييف ” ولا سيما أحدث الأجيال من دبابات القتال الرئيسية الغربية
(Main Battle Tank /MBT)
التي ربما قد تغري أوكرانيا بمعاودة زخمها التعرضي كما في هجومها الكبير أواخر العام الماضي والذي قد تجازف كييف خلاله – إن سنحت الفرصة – بمحاولة الوصول إلى شبه جزيرة القرم نفسها .
لقد أوكلت موسكو أمر تخطيط و قيادة الهجوم الكبير المرتقب لكبير جنرالاتها وهو الجنرال غيراسيموف قائد الأركان العامة للجيوش الروسية وهذا أمر لافت بل غير مسبوق أن يعهد لمن يقوم بواجبات قائد أركان عامة في روسيا بما له من صلاحيات في تشغيل حقيبة إطلاق الصواريخ النووية بقيادة عملية عسكرية خاصة محدودة في دولة لم ترفع روسيا معها درجة الصراع إلى مستوى إعلان الحرب .
لقد كان خطاب بوتين اليوم مشحونا بالتهديد و الوعيد و هو مما ينبغي أن يزيد من خشية إكييف من حيث المدى والأهداف التي سيطالها ذلك الهجوم الكبير والذي يراد منه أن يكون حاسما .
فهل سيتوقف عند الوصول إلى حدود المقاطعات الأربعة (لوهانسك ، دونيتسك ، خيرسون و زباروجيا) التي أعلنت انضمامها للاتحاد الروسي أم أنه سيتجاوز ذلك بالسيطرة على كل الشاطئ الجنوبي لأوكرانيا بما فيه من موانئ و حتى الوصول إلى حدود الجيب الروسي في مولدافيا و هل إذا سنحت الفرصة سيعاود موسكو إغراء السيطرة على العاصمة كييف وقضاء فائتة ؟
وهذا مما يردنا إلى قضية جوهرية و زئبقية في نفس الوقت ألا و هي :
ما الأهداف الحقيقية والمعلنة والثابتة لروسيا من هذه الحرب ؟
ثم ما ذا سيكون عليه رد الغرب في حالة طورت موسكو هجوما ناجحا لحرمان أوكرانيا من واجهتها البحرية على البحر الأسود بعد فقدانها تلك التي على بحر آزوف ؟
وأيضا و هو الأهم : ما هو الرد في حالة معاودة موسكو غواية السيطرة على العاصمة “كييف” التي كان يتجول فيها بالأمس الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الرئيس صاحب القميص زيلنسكي ؟