مقترحات إلى معالي وزير الاقتصاد والمالية

لا بأس بالعودة إلى مقال “الفساد ليس خصما ضعيفا فلنحاربه معا”، وذلك لأكرر القول بأنه لا تنمية مع الفساد، ولا إصلاح مع الفساد، ولا تغيير نحو الأفضل مع الفساد، بل ولا أمن ولا استقرار للبلد مع الفساد، ومن المؤكد أنه لن يكتب النجاح لأي خطة إصلاح، ومهما كانت جودتها، إذا لم تسبقها ـ أو تصاحبها على الأقل ـ حرب جدية تخوضها الحكومة ضد الفساد، وانتفاضة شعبية واسعة يطلقها المجتمع ضد الفساد.

أنبه هنا إلى أن التفريق بين الحرب والانتفاضة في مواجهة الفساد هو تفريق مقصود، وهو من أجل التمييز بين دور الحكومة ودور المجتمع في مواجهة الفساد، وهو كذلك من أجل تبيان أهمية التكامل بين الدورين، فبدون التكامل بينهما، فسيبقى الفساد في اتساع وتمدد، وهو ما سيمكنه في نهاية المطاف من وأد أي خطة إصلاح عند ميلادها، بل وحتى من قبل من ميلادها.

وأنبه كذلك إلى أن توجيه هذه الرسالة المتعلقة بمحاربة الفساد إلى معالي وزير الاقتصاد والمالية دون غيره من الوزراء، يعود إلى كون وزارة الاقتصاد والمالية هي الوزارة المعنية بالاستراتيجية الوطنية لمحاربة الرشوة، وأغلب ما جاء في البرنامج الانتخابي لفخامة رئيس الجمهورية من التزامات في مجال محاربة الفساد لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الرشوة.

إن الفساد يعدُّ خصما شرسا لأي خطة إصلاح أو أي مسعى تنموي، وعندما يتفشى في بلد ما بشكل واسع، وقد تفشى للأسف في بلادنا، فإنه في هذه الحالة يصبح لا يختلف عن المستعمر أو المحتل، ولذا فالخلاص منه يحتاج إلى حرب تحرير واسعة يشارك فيها الجميع، وحرب التحرير هذه هي حربٌ مصيرية، فإما أن ننتصر فيها حكومة وشعبا على الفساد، فننعم بثمار ذلك النصر، وإما أن ننهزم ونستسلم للفساد، ونرفع له الراية البيضاء، وحينها سيصبح مستقبل بلادنا مفتوحا على كل السيناريوهات والاحتمالات الأكثر سوءا.

إن الانتصار على الفساد لن يتحقق بدون حرب تحرير واسعة تُخاض ضده، وتتمثل حرب التحرير هذه في : حرب جدية تطلقها الحكومة، وانتفاضة شعبية واسعة تطلقها القوى الحية في المجتمع. ومن هنا وجب التوقف قليلا مع الحرب على الفساد والانتفاضة ضد الفساد.
أولا / الحرب على الفساد

إن الحكومة هي وحدها القادرة على خوض حرب على الفساد، لأن الحرب على الفساد كأي حرب أخرى تحتاج إلى أسلحة، والأسلحة لا تملكها إلا الحكومات، وهي وحدها القادرة على استخدام تلك الأسلحة، وهذه هي أهم الأسلحة التي يُمكن للحكومات أن تحارب بها الفساد:

السلاح الأول / وجود إرادة سياسية قوية وصارمة لدى فخامة رئيس الجمهورية وحكومته لمحاربة الفساد. وكما قلتُ في مقال سابق فإن من اطلع على رسالة إعلان الترشح، وبرنامج طموحي للوطن، وخطابات الحملة، وخطاب التنصيب، وتوجيهات الرئيس للوزراء في أول اجتماع للحكومة الجديدة، وتعليمات الوزراء للموظفين في قطاعاتهم، من اطلع على كل ذلك سيستبشر خيرا بوجود إرادة سياسية لمحاربة الفساد خلال المأمورية الثانية؛

السلاح الثاني / تجسيد الإرادة السياسية من خلال قرارات وإجراءات عملية وفعالة للحد من الفساد، ومن تلك الإجراءات تنفيذ الالتزامات التي تعهد بها فخامة الرئيس في برنامجه الانتخابي بخصوص محاربة الفساد، وخاصة منها ما يتعلق بوضع آليات فعالة للإبلاغ عن الفساد، وتأمين المبلغين، ومراجعة قانون مكافحة الرشوة، وخاصة الأحكام المتعلقة بتجريم قضايا الرشوة، والتصريح بالممتلكات، وتضارب المصالح، ومواءمتها مع أفضل الممارسات الدولية في هذا المجال؛

السلاح الثالث / تجسيد الإرادة السياسية من خلال تفعيل الأجهزة الرقابية والقضائية: أي أن تكون هناك أجهزة رقابية تعمل بشكل فعال (الرقابة البرلمانية؛ محكمة الحسابات؛ المفتشية العامة للدولة؛ المفتشية العامة للمالية ..إلخ)، هذا فضلا عن وجود جهاز قضائي فعال؛

السلاح الرابع / تجسيد الإرادة السياسية من خلال العمل بمبدأ المكافأة والعقوبة: لابد من الأخذ بهذا المبدأ في أي حرب جدية على الفساد، وذلك حتى ينال الموظف المفسد ما يستحق من عقاب إداري وقضائي، وينال الموظف النزيه ما يستحق من ترقية وتكريم.

ثانيا / الانتفاضة الشعبية ضد الفساد
على المستوى الشعبي في مواجهة الفساد، فلابد من إطلاق انتفاضة شعبية ضد الفساد، والانتفاضة الشعبية ضد الفساد كأي انتفاضة أخرى لا تحتاج إلى أسلحة محددة، فكل شيء يمكن أن يستخدم كسلاح، فحتى نظرة الازدراء وإظهار عدم التقدير لكل مفسد معلوم الفساد يمكن استخدامها كسلاح ضد الفساد، فهذا السلاح البسيط لا أحد يستخدمه رغم أن استخدامه متاح للجميع، بل على العكس من ذلك فنظرة الازدراء والاحتقار لم يعد مجتمعنا ينظر بها إلا للموظف النزيه المتعفف عن سرقة المال العام، والذي تمنعه استقامته من أن يجمع أموالا طائلة من سرقة المال العام، وإنفاق فتاتها كرشوة للمجتمع لينال بذلك نظرات التقدير والإعجاب من مجتمع جشع أصبح يشكل حاضنة قوية للفساد، وأصبح لا يقدر ولا يحترم إلا المفسد الذي يسرق المال العام في وضح النهار، والذي يتباهى بمسروقاته نهارا جهارا من خلال تشييد العمارات واقتناء السيارات الفاخرات، مع العلم أنه لو جمع كل راتبه خلال عمره الوظيفي لما تمكن من تشييد منزل واحد في إحدى المقاطعات الراقية في ولاية نواكشوط الغربية.
إن من أهم الأسلحة التي يمكن أن نستخدمها في أي انتفاضة شعبية ضد الفساد هي أن نصحح هذا الانقلاب القائم في قيمنا المجتمعية، وهو انقلاب جعل المفسد من حيث التقدير والاحترام في أعلى الهرم، والموظف النزيه في أسفله، ونحن عندما نصحح هذا الانقلاب القيمي، ونعيد بالتالي المجتمع إلى فطرته السليمة، فإننا بذلك نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في حربنا المصيرية ضد الفساد والمفسدين.

إن الانتفاضة الشعبية ضد الفساد، وكما قلنا سابقا ليست لها أسلحة محددة، وكل شيء يمكن أن يستخدم فيها كسلاح، وعموما فهناك مجالات للتحرك الشعبي ضد الفساد يجب أن يركز عليها أي حراك شعبي يخطط ـ وبشكل جاد ـ لأن ينتفض ضد الفساد، ولعل من أهم تلك المجالات:
المجال الأول / التوعية والتحسيس حول خطورة الفساد : لقد أصبحنا نعيش في مجتمع متصالح مع الفساد بل وحاضن له، أي أننا نعيش في مجتمع لا يرحب بأي مواجهة حقيقية وجدية مع الفساد، هذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، ولذا فإن أهم دور يمكن أن يلعبه أي حراك شعبي ضد الفساد هو العمل على تغيير نظرة المجتمع للفساد والمفسدين، ويحتاج ذلك إلى جهد توعوي واسع طويل النفس يشارك فيه كل من يستطيع أن يؤثر في الرأي العام من علماء وساسة ونشطاء جمعويين وصحافة ومدونين…إلخ

والهدف من هذا الجهد التوعوي هو جعل المجتمع يغير نظرته إلى الرشوة وسرقة المال العام وكل أشكال الفساد، يغيرها من نظرة تشجع تلك الأفعال إلى نظرة تزدري تلك الأفعال وتذمها وتحتقر كل من يقوم بها. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الكثير من أفراد المجتمع قد يقفون عمليا ضد أي جهد توعوي ضد الفساد، وذلك على الرغم من أنهم هم المستفيد الأول من مواجهة الفساد، فالتغيير ـ أي تغيير ـ قد يجد في البداية مقاومة قوية من المستفيد منه، ومن هنا تبرز أهمية التوعية أكثر؛

المجال الثاني / خلق ذراع شعبية حيوية ونشطة تقدم الدعم والمؤازرة الشعبية والإعلامية للحكومة عند فتحها لأي ملف فساد. فمن المعروف أنه عند فتح أي ملف فساد فإن الذي يجد الدعم الإعلامي والشعبي هو المفسد الذي تقف معه قبيلته، وكثير من أولئك الذين وصلهم بعض الفتات من أمواله الطائلة التي سرق، وتبقى الجهة الحكومية التي تقف وراء فتح ذلك الملف وحيدة دون أي سند سياسي أو إعلامي، ودون أي ظهير شعبي، بل وكثيرا ما تصبح هي المتهم الأول بممارسة جريمة “تصفية الحسابات” ضد هذا المفسد أو ذاك.

ولعل من أهم الحجج التي يحاول البعض أن يشوش بها على أي ملف فساد يتم فتحه، هي انشغاله عند فتح أي ملف فساد بتعداد مظاهر الفساد في البلد، والقول بأنه لا أهمية لفتح ذلك الملف من قبل فتح كل ملفات الفساد الأخرى. إن من يُطالب بفتح ملفات الفساد دفعة واحدة إنما يُطالب بالمستحيل، وهو في حقيقة أمره لا يريد حربا جدية على الفساد، فاشتراط فتح كل ملفات الفساد دفعة واحدة، في بلد تفشى فيه الفساد هو شرط تعجيزي، ومن يطرح شرطا كذلك، إنما يناصر الفساد والمفسدين، علم بذلك أو لم يعلم.

المجال الثالث / تبيان مظاهر الخلل أو النقص في العمل الحكومي، وكشف ما يمكن كشفه من ملفات فساد، مع العمل على تقديم ما يمكن تقديمه من مقترحات قد تساهم في الحد من الفساد.

قد يقول قائل هنا، وما علاقة وزارة الاقتصاد بشكل خاص أو الحكومة بشكل عام بالانتفاضة الشعبية ضد الفساد؟
صحيح أن الانتفاضة الشعبية ضد الفساد ليست من مهام الحكومة، فهي عمل شعبي يجب أن تقوده القوى الحية في البلد، ولكن الصحيح أيضا أن هذه الانتفاضة بحاجة إلى دعم ومباركة من الحكومة، فإذا لم تشجع الحكومة الأذرع السياسية والإعلامية للنظام على الانخراط في انتفاضة من هذا القبيل، فإن الانخراط فيها سيبقى محدودا وبدون فاعلية.

لقد دعونا في “منتدى 24 ـ 29 لدعم ومتابعة تنفيذ برنامج رئيس الجمهورية” إلى ضرورة المسارعة في تشكيل تحالف وطني واسع ضد الفساد، ويمكن لهذا التحالف أن يقود انتفاضة شعبية ضد الفساد، على أن تكون نقطة الانطلاقة في تلك الانتفاضة من خلال تنظيم مؤتمر وطني لمحاربة الفساد (يوجد تصور متكامل لهذا المؤتمر)، على أن يُصدر ذلك المؤتمر توصيات وطنية في مجال محاربة الفساد يعمل جميع المشاركين في المؤتمر من قوى سياسية وجمعوية على تنفيذها.
سيتواصل إن شاء الله تقديم مقترحات أخرى لوزراء آخرين..

حفظ الله موريتانيا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى