فوضى حركة السير .. هل من حلول؟ / محمد الأمين ولد الفاظل

من يتأمل حركة السير صباحا أو مساءً في العاصمة نواكشوط، سيخرج باستنتاج صادم مفاده أن السائقين قد قرروا ـ عن بكرة أبيهم ـ أن ينفذوا عملية انتحار جماعي، وذلك من خلال ارتكاب كل الأخطاء والتجاوزات التي يمكن أن تتخيلها أو لا تتخيلها في وقت واحد، فهذا سائق لم يتوقف عند الإشارة الحمراء، وذلك سائق لم ُيثَبِّتْ في حياته حزام الأمان ولو لمرة واحدة، وثالث يقود سيارته بسرعة جنونية، ورابع منشغل بالهاتف أثناء القيادة، وخامس يشير بضوء سيارته الخلفي أنه سيلف يمينا ولكنه يلف يسارا، وسادس يتوقف وسط الشارع في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يشاء.
هذا هو في المجمل ما يحدث يوميا على أغلب شوارع وملتقيات طرق العاصمة نواكشوط، وإذا ما أردنا أن نتحدث في التفاصيل، فلا بأس بالتوقف عند بعض العناوين الفرعية.

مجانين ينظمون حركة السير

لعل من أبلغ الأدلة وأكثرها صدمة على ما نعيش من فوضى في حركة السير، هو أنه توجد في العاصمة نواكشوط ثلاثة ملتقيات طرق حيوية ينظم فيها حركة سير مجانين.

لقد بلغت فوضى حركة السير في بلادنا حدًّا أصبح فيه “عقلاء البلد ونخبه”، ومن يقود السيارات إذا ما استثنينا سائقي سيارات الأجرة هم نخب البلد، أصبحوا بحاجة إلى مجانين لينظموا لهم حركة السير في بعض ملتقيات الطرق الحيوية.

كرمٌ هنا وبخلٌ هناك

من المعروف أن الموريتاني هو بطبيعته شخص كريم، والشعب الموريتاني يعدُّ من أكرم الشعوب، ومع ذلك فإن هذا الشعب الكريم بفطرته بخيلٌ جدا في الشارع، ومن الصعب جدا أن يتكرم عليك موريتاني من نخبة المجتمع أو عامته بأن يعطيك الأسبقية في الطريق، حتى وإن كنتَ في أشد الحاجة لذلك، بل إن بعضنا قد يبخل بفتح الطريق لسيارة الإسعاف.

وحدهم الأجانب هم الذين يتكرمون بمنح الطريق وإعطاء الأولوية لمن يحتاجها، وذلك مع الاعتراف بأن الكثير من الأجانب أصابته عدوى فوضوية الموريتانيين في الشارع، وأصبح أكثر فوضوية من الموريتانيين، فمنهم من أصبح يتصرف على الشارع برعونة كبيرة تعبر عن مدى استخفافه بأهل هذا البلد الذي يقيم فيه.

ومن قبل أن أختم هذه الفقرة لابد أن أشير إلى جفاف المشاعر الذي يعاني منه السائق الموريتاني، فأنتَ عندما تشذُّ عن القاعدة، وتقرر أن تتكرم بفتح الطريق لصاحب سيارة، فإنه يبخل عليك في الغالب الأعم، بأن يرفع إليك يده شاكرا.

من يُهدر الساعات الطوال قد يحرص على الثواني!

الشعب الموريتاني قد يكون من الشعوب الأكثر إهدارا للوقت، ويكفي لتبيان ذلك، أن نُذَكِّر ب”جيمات” الشاي الثلاثة، والتي من بينها جِيمٌ تجعل من عملية إبطاء الشاي هدرا للوقت شرطا من شروط صحته. الغريب في الأمر، أن هذا الشعب المعروف بإهداره للوقت قد تجد فيه من يُظهر حرصا مبالغا فيه لاستغلال الوقت، قد لا تجده في أي بقعة من العالم، وذلك لدرجة أنه لا يقبل بالتوقف ـ ولو لثانية واحدة ـ عند إشارة المرور في انتظار الضوء الأخضر.

البعض منا قد يُخاطر بحياته وبحياة غيره حتى لا يضيع ثانية واحدة يتبدل فيه لون إشارة المرور، ومن يشاهد ذلك الحرص المبالغ فيه لاستغلال ثانية واحدة عند ملتقيات الطرق، قد يطرح السؤال : ما الذي جعل ذلك الشخص يُخاطر بحياته لكسب ثانية واحدة عند إشارة الضوء؟

لا بأس، سأتكرم عليكم بالجواب : ربما يكون مستعجلا لأنه في طريقه إلى جلسة شاي سيهدر فيها الساعات الطوال من وقته!

لمن ملكية الشارع؟

كثيرٌ من سالكي الطرق يتعامل مع الشارع، وكأنه ملكية خاصة به، ولذا فهو قد يتوقف في وسطه في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يشاء ليتبادل أطراف الحديث مع شخص يعرفه، التقى به صدفة على الشارع، وربما يتوقف ليشتري بضاعة، أو ليحمل راكبا، أو لأي سبب آخر كان.

وعندما يستفزك هذا التصرف الغريب، فتطلب ممن مارسه أن يفتح لك الطريق، قد يلتفت إليك غاضبا، ويقول لك : هل الشارع شارعك، وكأنه شارعه هو الذي ورثه عن آبائه وأجداده، والذي يمتلك عليه وثيقة تؤكد ملكيته!

يا هذا، الشارع ليس لي ولا لك، وهو ملكية عامة للجميع، ولكل واحد منا الحق في استخدامه واستغلاله بشكل سليم، ولكن لا يحق لأي منا أن يستخدمه بشكل غير سليم.

الواعظ الصغير

تتعرض الشوارع لعمليات اعتداء من طرف جهات عديدة، فشركات الاتصال والماء والكهرباء والبلديات وغيرها، كل واحدة من هذه الجهات قد تأتي إلى شارع ما فتحفر فيه حفرة لتنفيذ بعض الأشغال، ثم تترك تلك الخفرة دون أي ترميم.

عمليات الاعتداء على الشوارع يشارك فيه المواطنون، فأصحاب المنازل المحاذية للشوارع قد يقتطعون منها قطعة فيحولونها إلى ملكية خاصة تضرب فيها خيمة، أو يشيد فيها خزان ماء، أو تجعل حظيرة للماعز.

ويبقى أصحاب المتاجر والباعة الصغار والمتسولون هم الأكثر اعتداءً على الشوارع، وأذكر أننا في حملة “معا للحد من حوادث السير” نظمنا زيارة ميدانية لحادث سير وقع في تفرغ زينة (عملية دهس)، توفي فيها شاب صغير كان يبيع بطاقات الرصيد والسجائر، وكان يستخدم كيسا خشبيا صغيرا وكرسيا كمحل بيع على الشارع.

بعد الحادث بيومين زرنا للمرة الثانية نفس المكان، فوجدنا الأخ الأصغر للشاب المتوفي يستخدم نفس المحل لبيع بطاقات الرصيد والسجائر، فطلبنا منه أن يبتعد قليلا عن الشارع حتى لا تتكرر معه المأساة التي حدثت مع أخيه الأكبر، فامتنع، وقال لنا بأن الأعمار بيد الله، وأن ما حدث مع أخيه كان قدرا مكتوبا. لقد تلقينا يومها موعظة من واعظ صغير يبيع بطاقات الرصيد والسجائر على قارعة الطريق.

خسائر مادية ومشاكل نفسية

قد تذهب إلى عملك في الصباح الباكر، فتصل إليه بعد تأخر طويل، بسبب اختناق مروري ناتج عن ممارسات خاطئة لسالكي الطريق، وقد يكبدك هذا التأخر أو يكبد الجهة التي تعمل معها خسائر كبيرة، ولا تتوقف الخسائر على الجانب المادي فقط.

فأنت قد تذهب إلى عملك بفائض من حماس، وفي حالة نفسية جيدة، ولكنك لا تصل إليه إلا وقد أصبحت في حالة نفسية سيئة جدا، بسبب ما تلاقي على الشارع من مسلكيات مستفزة، فهذا سائق قد يسد الطريق أمامك دون مبرر، وذاك قد يصدمك بسيارته، وثالث قد يسبك دون سبب وجيه، وهكذا يستمر الحال معك على طول الطريق إلى ان تستنفد أخرة ذرة من فائض الحماس الذي كان لديك، وذلك من قبل وصولك إلى مكان العمل.

خذها قاعدة لقياس مستوى الصبر: من لديه القدرة على أن يتجول في شوارع العاصمة نواكشوط ليوم كامل دون أن يغضب لمرة واحدة، فهذا يعني أنه يمتلك صبرا استثنائيا يحسد عليه.

يا هذا ..إنك تخدع نفسك.

من غرائب مجتمعنا أنك قد تجد فينا من تعلم في أرقى الجامعات العالمية، وعاد إلى بلده بحمْل كبير من الشهادات، ومع ذلك تجده عندما يسافر ويقترب من نقطة تفتيش للدرك أو الشرطة يمدُّ يده لحزام الأمان الذي لم يستخدمه من قبل، ويثبته قليلا، وعندما يتجاوز نقطة التفتيش يتخلص منه بسرعة، وقد بدت على وجهه ملامح نشوة الانتصار، وذلك لشعوره الزائف بأنه خدع عناصر نقطة التفتيش بتثبيته المؤقت لحزام الأمان، متجاهلا بأنه لم يخدع إلا نفسه، وأنه عندما يقع حادث سير لا قدر الله، فإن الذي سيتضرر هو، لا عناصر الأمن الذين يعتقد أنه خدعهم بحركته الغبية تلك.

الكثير من السائقين، ولكي يتخلص من “الصوت المزعج” الذي تطلقه بعض السيارات الحديثة عندما لا يتم تثبيت أحزمة الأمان، يلجأ إلى اقتناء قطع حديدية صغيرة تستخدم لإسكات الصوت الذي تطلقه السيارات الحديثة عندما لا تُثَبت أحزمة الأمان.

الرابح هو من يرتكب المزيد من الأخطاء

إن الذين يربحون الوقت على شوارعنا، هم أولئك الذين يرتكبون الأخطاء، فعندما يقع اختناق مروري، فإن الذين يخرجون أولا من ذلك الاختناق هم أولئك الذين تسببوا فيه بكثرة أخطائهم، ثم يليهم بعض السائقين الذين لم يتسببوا في الاختناق، ولكنهم قلدوا من سبقهم في ممارسة نفس الأخطاء ليخرجوا من الزحام، ولأن هؤلاء لا يجدون من يعاقبهم، فيبقى العاضون بالنواجذ على قوانين السير في مؤخرة الركب، وهم آخر من يخرج من الزحام.

ولهذا فكثيرا ما يتخلى البعض عن قوانين السير، سعيا للخروج من الزحمة، وذلك عندما يرى بأن من يتخلى عن قوانين السير أولا، هو من يخرج أولا من الزحمة.

هل من حلول؟

رغم كل هذه الفوضى التي نعيشها اليوم على شوارعنا، فإن الحلول موجودة وسهلة، وهي تتمثل في التطبيق الصارم لقوانين السير، ولعل البشرى التي يمكن أن نقدمها هنا بعد كل التشاؤم أعلاه، هي أن المجتمع الموريتاني مجتمع سهل الانقياد، فهو مجتمع فوضوي بدرجة لا يمكن أن تُتخيل إذا كانت الفوضى هي من تحكم الشوارع، وهو قد يتخلى عن تلك الفوضى في أي لحظة عندما يشعر بأن هناك صرامة وجدية في تطبيق القانون، وأنه لا تراجع عن ذلك، وأن الكل يتساوى في العقوبة، سائق سيارة الأجرة وسائق السيارة الفاخرة التي يملكها الوزير أو الجنرال أو رجل الأعمال.

قد لا يصدق بعضكم أن المجتمع الموريتاني سهل الانقياد إلى النظام وإلى تطبيق القانون، عندما يتضح له أنه لا مفر من ذلك، فمن لا يصدق ذلك، فإليه هذا الدليل.

في العام 2010 كانت شوارع العاصمة نواكشوط، وكعادتها دائما، من قبل ومن بعد، تعيش فوضى في حركة السير، وكان هناك استثناء واحد، عند ملتقى الطرق الموجود بجنب “نادي الضباط”.

كان السائق في العاصمة نواكشوط ـ وخاصة سائق سيارة الأجرة ـ يقود سيارته بفوضويته المعهودة، ولكن عندما يصل إلى ملتقى نادي الضباط يتحول إلى سائق من نوع آخر، يتصرف بشكل حضري، وذلك لأنه كان يدرك بأن الشرطي الموجود هناك (الشيخ صار رحمه الله) لا يقبل تحت أي ظرف أي رشوة، ويتساوى عنده سائق السيارة الفاخرة وسائق السيارة المتهالكة، وكان يؤدي عمله بحيوية وحماس، وكانت الابتسامة لا تفارقه، حتى من بعد قضاء عدة ساعات تحت الشمس وهو ينظم حركة السير في أحد ملتقيات طرق العاصمة.

كان السائقون يلتزمون بقوانين السير عندما يصلون إلى ملتقى نادي الضباط، وذلك لأنهم يدركون ـ تمام الإدراك ـ بأن القانون سيطبق بشكل صارم على الجميع ودون أي تمييز، وكانوا يعودون إلى فوضويتهم التي جبلوا عليها، عندما يتجاوزون ملتقى طرق نادي الضباط.

رحم الله الشيخ صار، فما أحوجنا إليه في هذه الأيام. لقد منحناه في العام 2010 وساما شعبيا، وذلك بعد أن قضينا معه يوما تحت الشمس عند ملتقى نادي الضباط تشجيعا له، وقد انضم إلينا فيما بعد في حملة معا للحد من حوادث السير بعد تقاعده، وكان عضوا شرفيا فيها، وكنا على صلة به إلى أن توفي بعد معاناة من المرض في يوم الخامس من نوفمبر من العام 2022 .

هل ستنجح حملة فك الاختناق المروري؟

إن تكرار نفس الأساليب قد يؤدي إلى نفس النتائج، وذلك مما لا يبشر على الحملة، ولعل من الأخطاء التي ارتكبت في هذه الحملة أن أساليب التحسيس بها لم تتغير، فقد تمت إعادة نفس أساليب التحسيس التي كانت تُستخدم سابقا، مجموعة من الموظفين الرسميين تنظم لهم التلفزة أو الإذاعة مقابلات يتحدثون فيها بنفس الطريقة التي كان يتحدث بها أسلافهم في أواخر القرن الماضي.

فمن الملاحظ أن التحسيس بالحملة غائب تماما في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت هي الأكثر تأثيرا، فالإعلام الرسمي لم يعد له أي تأثير يذكر رغم ما يبتلع سنويا من ميزانيات ضخمة.

ومن جهة تحسيسية أخرى، فإني لا أدري إن كانت النقابات المهنية للسائقين قد أشركت في هذه الحملة، ولا أدري كذلك إن كان المجتمع المدني بصفة عامة قد أشرك فيها ام لا؟ المؤكد عندي الآن هو أننا في حملة معا للحد من حوادث السير لم نُشعر من أي جهة بهذه الحملة، ولم يطلب منا أن نشارك فيها.

في بعض الأحيان، وفي مثل هذه الحالات، قد تُشرك منظمات وجمعيات حقائب لا وجود لها على أرض الواقع، وذلك نظرا لعلاقة أصحابها بهذا المسؤول أو ذاك، وقد عودتنا وزارة التجهيز والنقل على مثل ذلك في السنوات الأخيرة.

ومهما يكن من أمر، فهذه الحملة ستبقى حملة مهمة جدا، ويجب أن تنجح بعد الإعلان عن انطلاقها، وبغض النظر عن الأخطاء التي ارتكبت أثناء التحضير.

إن هذه الحملة التي ستنطلق بعد أقل من ساعتين، يجب أن تتواصل وتستمر حتى تنجح، ولا شيء أخطر من الاستمرار في التغاضي عن هذه الفوضوية التي نعيشها في الشوارع، لا شيء أخطر من ذلك، إلا أن تطلق حملة للحد من تلك الفوضوية ثم تتوقف في منتصف الطريق من قبل الوصول إلى نتائج حاسمة.

هذه الحملة ستشكل أول امتحان جدي للحكومة الحالية، وهي يجب أن لا تتوقف، ومهما كانت كلفتها على المواطنين، وستكون لها ـ وبكل تأكيد ـ كلفة كبيرة على المواطنين، فتوقفها في منتصف الطريق سيعقد هذا الملف مستقبلا، وسيجعل حله أكثر صعوبة، فمثل هذه الحملات التي لا تستمر يكون ضررها أكبر من نفعها، وذلك لأنها ستشجع سالكي الطرق على المزيد من الفوضى في الشوارع، وستؤكد لهم بأن الحكومة غير جادة في وقف هذه الفوضى.

إننا في حملة “معا للحد من حوادث السير” نشجع حملة الحد من الاختناق المروري رغم عدم إشراكنا فيها بصفتنا منظمة مجتمع مدني فاعلة في المجال، ونعلن بهذه المناسبة بأننا لن ندخر أي جهد توعوي وتحسيسي في سبيل إنجاحها.

حفظ الله موريتانيا..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى