ورقة كاشفة / كيف يشوه “صُنَّاع المغالطات” سمعة موريتانيا؟ / محمد الأمين ولد الفاظل

لعل من أغرب وأبلغ ما سمعتُ من توصيف لحال موريتانيا، ما يُنسب لخبير أجنبي قيل إنه عمل في بلادنا لفترة من الزمن، وأنه خَلُصَ إلى استنتاج مفاده أن موريتانيا تعدُّ من أقوى الدول، وحجته في ذلك، أنها ما تزال صامدة حتى الآن، رغم أن أبناءها ـ كل أبنائها ـ لا يفكرون عندما يستيقظون في كل صباح، إلا في شيء واحد، وهو تدميرها من خلال نهب ما يمكن نهبه من أموالها ومقدَّراتها.
وبغض النظر عن صحة القصة، وما رُوِيَّ عن الخبير الأجنبي، فسيبقى هذا التصنيف ـ في كل الأحوال ـ تصنيفا قويا في دلالته، عميقا في جوهره، فأن يَصمُد بلد أمام فسادٍ عمَّ واستشرى واستمرَّ لعقود، وقلَّ من نجا منه من أبناء ذلك البلد، فتلك معجزة حقيقية تُجيز وصف ذلك البلد بأنه قوي جدا، فلو لم يكن قويا لما صمد كل هذه السنين أمام كل ذلك الفساد.
ومحاكاة للخبير الأجنبي، وفي مجال آخر غير الفساد، فيمكنني أنا أيضا أن أصنف موريتانيا بأنها بلد قوي، وحجتي في ذلك، أنها تتعرض منذ عقود لحملات تشويه إعلامية وحقوقية وسياسية واسعة من طرف الكثير من أبنائها، وبعض الأجانب، ومع ذلك فلم تتمكن تلك الحملات الواسعة، من أن تشوه سمعتها إلى درجة تجعل الأمم المتحدة تُلَوِّح ـ مثلا ـ باستخدام البند السابع من ميثاقها لوقف ما يمارس داخلها من “عنصرية واضطهاد”، تستك منه المسامع، وتصطك له الركب، هذا إذا ما صدَّقنا ما ينشر محليا ودوليا عمَّا يمارس في بلادنا من عنصرية، ضد بعض المواطنين، وضد بعض الأجانب كذلك.
في هذه الورقة الكاشفة سنستعرض ـ وبشيء من التفصيل ـ صورا من تلك الحملات والمغالطات الهادفة إلى تشويه سمعة بلادنا، وسنستعرض كل صورة من تلك الصور من خلال عنوان خاص بها.
لماذا تُغْمض الأعين دائما عن أفضالنا؟!
في مطلع العام 2022، وردا على تمديد قادة الانقلاب في مالي للفترة الانتقالية، والقفز بها من 6 أشهر إلى 5 سنوات، انعقد مؤتمر استثنائي لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقياUEMOA) ) والمنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا (ECOWAS)، في العاصمة الغانية أكرا، وقرر هذا المؤتمر فرض عقوبات قاسية جدا على دولة مالي الشقيقة، تمثلت في تجميد أصولها المالية في البنك المركزي لدول غرب أفريقيا، وإغلاق الحدود معها، وسحب السفراء…إلخ.
وعلى النقيض من ذلك، وفي موقف أصيل، رفضت بلادنا أن تُشارك في حصار أو مقاطعة الجارة مالي، وتجويع شعبها الشقيق، فأبقت حدودها معها ـ والتي تبلغ 2237 كلم ـ مفتوحة على طول.
بعد ذلك بفترة قصيرة، وبدلا من الرد على الحسنة بالحسنة، ارتكب الجيش المالي مجازر وحشية وفظيعة في فترات متقاربة جدا ضد موريتانيين عُزَّل، فقتل العشرات من مواطنينا. ومن غرائب الصدف أننا لم نسمع في تلك الفترة عن قتل الجيش المالي لمواطنين من دول أخرى، تمتلك حدودا مع مالي، شاركت في المقاطعة أو لم تشارك فيها، فلم نسمع مثلا أنه قتل مواطنين سنغاليين أو عاجيين أو نيجريين أو بركابيين على الحدود مع تلك الدول، أو داخل الأراضي المالية.
كان بإمكان موريتانيا أن ترد بالمثل، وهي تمتلك القدرة العسكرية لذلك، ولكنها لم تفعل، وكان بإمكانها ـ وهذا هو أضعف الإيمان ـ أن تغلق حدودها كما فعلت دول أخرى في المنطقة، أو تُجَمِّد علاقاتها مع مالي، أو تطرد الماليين اللاجئين والمهاجرين من أراضيها، ولكنها لم تفعل أي شيء من ذلك، بل إنها لم تفكر أصلا في فعله، وقد أحسنت التصرف في عدم القيام بأي شيء من ذلك.
حافظت بلادنا ـ حكومة وشعبا ـ على أقصى درجات ضبط النفس، واكتفت الحكومة بتوجيه رسائل دبلوماسية، اعتبرها كثيرون رسائل باردة جدا، وكأنها أخرجت للتو من ثلاجة، وذلك على الرغم من فظاعة تلك المجازر وتكررها، وغرابة وحساسية التوقيت الذي اختير لتنفيذها.
قمنا بكل ذلك لأننا كنا، وما زلنا، وسنبقى دائما، نعتبر مالي دولة جارة وشقيقة، وأنها يجب أن تبقى كذلك مهما حدث، ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما فعلنا غير ذلك، لأن الحكمة كانت تقتضي بالفعل فعل ذلك.
في تلك الفترة لم نسمع من يقول بعنصرية النظام الحاكم في مالي، ولا بعنصرية جيشها، ولم تشن النخب الحقوقية والإعلامية والسياسية في إفريقيا حملة إعلامية منظمة أو غير منظمة تندد فيها بقتل الجيش المالي لعشرات الموريتانيين بدم بارد.
والأغرب من ذلك كله، وهذا هو بيت القصيد في هذه الفقرة، أن “المنظمات الحقوقية” في موريتانيا، والتي ترق قلوب من يديرونها دائما للضحايا الأجانب، لم تذرف دمعة واحدة على الموريتانيين الذين قتلوا في مالي بدم بارد، ولم تصدر بيانا واحدا من سطر أو سطرين للتضامن مع الضحايا، أو لتعزية ذويهم.
يبقى أن أقول في ختام هذه الفقرة، وحتى لا أظلم مالي، أن الموقف الرسمي للجارة الشقيقة في الوقت الحالي، يُعَدُّ موقفا إيجابيا ويستحق الإشادة، فالحكومة المالية تقف الآن وبصرامة ضد أي اعتداء على الموريتانيين أو على ممتلكاتهم، ونرجو أن تستمرَّ في ذلك.
ما مشكلة “منظماتنا الحقوقية” مع المواطن الموريتاني؟
تستقبل موريتانيا عددا كبيرا من المهاجرين القادمين من دول الجوار، ولا يمكن ـ بأي حال من الأحوال ـ أن نُقارن ما تستقبله بلادنا من مهاجرين من دول الجوار بجالياتنا في تلك الدول، لا مجال للمقارنة، لا من حيث العدد، ولا من حيث نسبة المهاجرين إلى عدد السكان، ولا على مستوى المردود الاقتصادي، ولا حتى على مستوى الانضباط واحترام قوانين بلد الإقامة.
على الرغم من هذا الاختلال البيِّن، فلم يحدث أن أغلقت بلادنا حدودها، أو قيدت دخول المهاجرين إليها، أو أبدت انزعاجها من إيواء اللاجئين، وذلك على الرغم من التدفق الكبير للمهاجرين، وعندما حاولت موريتانيا أخيرا أن تحدَّ من الهجرة غير الشرعية أو غير النظامية، ودون المساس بالمهاجرين النظاميين، قامت قيامة البعض، داخل موريتانيا وخارجها، فعادت بعض النخب الأفريقية لحديثها القديم الجديد الذي يصنف موريتانيا على أنها بلد عنصري، يُنَكِّل بالأفارقة السود المقيمين به، ويتعامل معهم وكأنهم حيوانات، ليس هذا فقط، بل إن من يطلقون حملات التشويه تلك يقولون أيضا بأن بلادنا تنكل بمواطنيها السود، وتمارس ضدهم العنصرية بأبشع أشكالها، وهكذا تستمر حملات تشويه سمعة بلادنا، فلا تكاد تتوقف حملة تشويه إلا وبدأت حملة تشويه أخرى.
لم تقتصر حملات التشويه على بعض النخب الأفريقية خارج موريتانيا، والتي قد تكون معذورة لأنها لا تعرف الشيء الكثير عن بلدنا المضياف والمنفتح على الآخر، والذي كثيرا ما يبالغ في حسن الضيافة ومستوى الانفتاح، لم تقتصر الحملة على النخب الإفريقية الأفريقية من خارج بلادنا، بل إنها كانت أشد وأشرس عند بعض مواطنينا من داخل موريتانيا ومن خارجها، وخاصة منهم بعض المقيمين في دول غربية.
سارعت “المنظمات الحقوقية” التي تغافلت ـ كعادتها ـ عن الموريتانيين الذين قتلوا في مالي بدم بارد، إلى إصدار بيانات شديدة اللهجة للتنديد بتعامل موريتانيا الوحشي مع الأجانب، فإذا أخذنا مثلا الجمعية الموريتانية لحقوق الإنسان، والتي تعدُّ واحدة من أشهر المنظمات الحقوقية في موريتانيا، فهي عضو في الاتحاد الدولي لحقوق الانسان، فسنجد أن هذه المنظمة التي ترأسها المحامية المعروفة “فاتيمتا أمباي” قد أعربت في بيان قوي اللهجة أصدرته يوم 06 مارس 2025 عن استيائها الشديد مما تعرض له المهاجرون الأفارقة في موريتانيا، وأدانت في البيان ـ وبأشد العبارات ـ عمليات: “الاعتقال الجماعي والتعسفي”، و ظروف “الاحتجاز اللاإنسانية” التي تعرض لها المهاجرون في موريتانيا، وأكدت الجمعية في بيانها أن ما ترتكبه موريتانيا في حق المهاجرين يشكل “انتهاكا صارخا للكرامة الإنسانية، وللالتزامات الدولية والإقليمية”. ولم يفُت الجمعية في بيانها أن تتحدث عن “المأساة الإنسانية التي تكشفت في مراكز الشرطة”، ولا عن “المهاجرين المكدسين في ظروف مهينة في مراكز الشرطة في نواكشوط ونواذيبو”.
وطالبت الجمعية في بيان 06 مارس بالوقف الفوري “للاعتقالات التعسفية” و”الترحيل القسري للمهاجرين”، ودعت المجتمع المدني وكل المدافعين عن حقوق الإنسان إلى التدخل العاجل ل”حماية كرامة المهاجرين” في موريتانيا، وذلك مع العلم بأن كل من تم ترحيلهم من الأجانب في الفترة الأخيرة تم ترحيلهم بحضور ممثلي جالياتهم، وقد اعترف كل واحد منهم أمام ممثل جاليته أنه استوفى كل حقوقه، وأنه لم يكن يملك إقامة شرعية في موريتانيا.
لم تكن جمعية الدفاع عن المهاجرين في موريتانيا، عفوا على تغيير اسمها ليتناسب مع مهامها الفعلية، أقصد الجمعية الموريتانية لحقوق الإنسان، هي الوحيدة التي انتصرت لكرامة المهاجرين غير النظاميين، وتغاضت عن الموريتانيين الذين قتلوا في مالي، بل كانت هناك “جمعيات حقوقية” أخرى، تحدثتُ عنها في مقال سابق، ولم تكن الجمعيات الحقوقية هي وحدها التي وقفت وساندت وتضامنت مع المهاجرين في “مأساتهم الإنسانية”، بل كان هناك سياسيون ونواب وأساتذة جامعيون وإعلاميون ومدونون موريتانيون، دافعوا ـ وبحماس ـ عن كرامة المهاجرين، ونددوا ـ وبشدة ـ بانتهاك بلدنا لحقوق المهاجرين الأفارقة، ولذا فيمكن القول بأن وزيرة الاندماج الإفريقي والشؤون الخارجية السنغالية قد استخدمت لغة دبلوماسية مهذبة جدا، بالمقارنة مع لغة حقوقيي موريتانيا، وذلك عندما اكتفت باستخدام عبارة “المعاملة اللاإنسانية” لوصف ما جرى، فلا شك أن الوزيرة قد اطلعت على بيانات بعض “المنظمات الحقوقية الموريتانية”، وعلى تصريحات بعض النواب والسياسيين الموريتانيين، وعلى ما يكتبه بعض الإعلاميين والمدونين الموريتانيين، والذين كانوا يصفون ما يجري في موريتانيا من تنكيل بالأجانب بعبارات قاسية جدا، فلو أن الوزيرة استخدمت في تصريحها العبارات التي كانت تسمعها من بعض الموريتانيين، استخدمتها في إطار (وشهد شاهد من أهلها)، لفاض تصريحها بعبارات أقسى بكثير من عبارة “المعاملة اللاانسانية” التي جاءت في تصريحها.
الغريب في الأمر أن “منظماتنا الحقوقية”، والتي لا ترصد إلا ما يسيء إلى سمعة بلادنا، تجاهلت تماما تصريح السيد “بولايا كيتا” مستشار وزير الخارجية المالي، والذي أدلى به في يوم 13 مارس 2025 ، وأكد من خلاله أن موريتانيا رحلت 528 مهاجرا ماليا غير نظامي، ولم يتعرض أي منهم لأي معاملة سيئة.
وبطبيعة الحال، فإن ما نُشر من مغالطات تسيء إلى سمعة بلدنا، وما نسب إليه ـ كذبا ـ من تنكيل بالمهاجرين في الأيام الأخيرة، سيبقى في الإنترنت وهنا تكمن خطورته، لينضاف إلى ما سبقه من أرشيف مضلل عن موريتانيا، شارك في توثيقه موريتانيون لا يترددون في القيام بأي شيء من شأنه أن يثبت للعالم أن موريتانيا دولة عنصرية تنتهك حقوق السود بشكل فج.
عن جثة الموريتاني المعرضة للحرق في بلجيكا!
في يوم 06 يوليو من العام 2023 نشر الناشط السياسي الموريتاني المقيم في بلجيكا “آداما با” نداءً إنسانيا عاجلا على حسابه في الفيسبوك باللغتين العربية والفرنسية، وتم تداول هذا النداء بشكل واسع، وهذا ما جاء تقريبا في نسخته العربية:
“رسالة إلى الموريتانيين: هناك مواطن موريتاني يدعى انجاي سيدي مولود 1952 في روصو، توفي منذ شهرين تقريبا في مدينة انفرس ببلجيكا، والشرطة أعطت مهلة 72 ساعة، إن لم يعثر على ذويه، فسيتم تسليمه لمؤسسة المحرقة، نعوذ بالله، فليبلغ الحاضر الغائب”.
تم تداول هذا النداء الإنساني بشكل واسع في الفيسبوك، واستُغِل ـ كالعادة ـ من طرف بعض الموريتانيين للتأكيد على عنصرية النظام الحاكم في بلادنا، فحسب أولئك، فلو كان هذا المتوفي من مكونة أخرى لتم نقله بسرعة، ولما تُركت جثته مرمية في أحد مستشفيات بلجيكا لقرابة شهرين.
اعتبرت جاليتنا في بلجيكا هذا المتوفي موريتانيا، وذلك لكونه يمتلك بطاقة تعريف وطنية تؤكد أنه ولد في روصو في العام 1952، والحقيقة أنه ليس موريتانيا، وإنما كانت لديه وثائق موريتانية مزورة، حاله في ذلك كحال الآلاف ـ إن لم أقل عشرات الآلاف أو مئات الآلاف ـ من الأفارقة المقيمين في الغرب. بعد تلك الضجة الكبيرة، وبعد أن ألصقت تهمة العنصرية من جديد بموريتانيا، نقل موقع “La Dépêche” عن مصادر سنغالية أن الجثة تعود لمواطن سنغالي جاء إلى بلجيكا منذ فترة، وأنه خلال بحثه عن اللجوء، وسعيا لدعم ملفه كلاجئ مضطهد تقدم ببطاقة تعريف موريتانية، وادعى أنه مواطن موريتاني!!
المثير للاستغراب أن من أطلق النداء، ومن شاركوه، بخلوا بكتابة منشور واحد يقولون فيه ـ وبعد أن تكشفت حقيقة الجثة ـ أن المتوفي سنغالي وليس موريتانيا، فالنداء ما زال موجودا ـ حتى الآن ـ في حسابات من شاركه، وفي حساب الناشط “آداما با” (المصدر الأصلي) دون أي تعديل، ودون أي اعتذار عن هذه الكذبة التي امتدت في الآفاق، والتي تقول بأن النظام الموريتاني العنصري تخلَّى عن جثة أحد مواطنيه، لأسباب عنصرية، وتركها عرضة للحرق في بلجيكا.
وبطبيعة الحال، فإن كل ما نُشِر في تلك الفترة عن عنصرية النظام الموريتاني الذي ترك “جثة موريتاني” مسلم معرضة للحرق في بلجيكا، ما زال موجودا على الأنترنت دون أي تعديل، وسيبقى كذلك، لينضاف إلى الكثير من المعلومات المضللة التي تُنشر بكثافة واستمرار عن بلدنا، والتي تحاول في مجملها أن تؤكد بأنه بلدٌ عنصري يضطهد الأفارقة السود، مواطنين كانوا أو أجانب.
إنه لمؤلم حقا، أن يُجمع لبلادنا في حادثة الجثة التي كانت معرضة للحرق في بلجيكا، شران في وقت واحد. شرٌّ يتعلق بتزوير وثائقنا المدنية، وشرٌّ ثانٍ يتمثل في أن من يزور تلك الوثائق، لا يكتفي فقط بتزويرها، وإنما يَدَّعِي ـ إضافة إلى ذلك ـ بأنه تعرض للكثير من الاضطهاد والعنصرية في “بلده” موريتانيا، بسبب بشرته السوداء، يَدَّعِي ذلك سعيا للحصول على حق اللجوء، وتسريعا لإجراءاته.
الوثائق المؤمنة والمغالطات الكبرى
تُظهر قصة أنجاي سيدي، وما هي إلا قصة من آلاف القصص المشابهة، مدى حاجتنا في هذه البلاد إلى تأمين وثائقنا الثبوتية لوقف تجَنُّس الأجانب، وفي وضعية كهذه فقد كان من المفترض أن يُلاقي تأسيس وكالة وطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة ترحيبا ودعما سياسيا وإعلاميا غير مسبوق من طرف الجميع: موالاة ومعارضة، ولكن للأسف، فما حصل كان على العكس من ذلك تماما، فقد تعرضت هذه الوكالة لحملة تشويه غير مسبوقة قائمة على مغالطات كبرى، سنستعرضها تحت هذا العنوان الفرعي من ورقتنا الكاشفة هذه.
لقد كنتُ شاهدا على حملات تشويه الوكالة، وعلى ما كان يروج له من مغالطات في تلك الفترة من طرف المعارضة الموريتانية والإعلام المحسوب عليها، وواكبتُ تأسيس حركة “لا تلمس جنسيتي” منذ أن كانت مشروعا قيد التأسيس، يُخَطِّط للقيام بسلسلة من الاحتجاجات ضد وكالة الوثائق المؤمنة.
كان التسويق السياسي والإعلامي والحقوقي لهذه المغالطات الكبرى إحدى نقاط خلافي مع المعارضة التي كنتُ أنتمي إليها، وقد نشرتُ في تلك الفترة مقالات عديدة حاولتُ من خلالها أن أفند تلك المغالطات، وقد أغضبت تلك المقالات بعض زملائي في المعارضة.
لقد بذلت المعارضة الموريتانية جهودا سياسية وحقوقية وإعلامية كبيرة ـ عن وعي أو عن غير وعي ـ لترسخ في أذهان الناس مغالطة كبيرة، مفادها أن الموريتانيين في ولايات الضفة، هم المتضررون حصرا من الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة، ومن إجراءاتها المعقدة للحصول على وثائقها المؤمنة.
ولقد تأسست حركة “لا تلمس جنسيتي” على هذا الأساس، وعلى مضامين هذه المغالطة، وللأسف فإن هذه الحركة كانت تتجه في كثير من احتجاجاتها العنيفة إلى الأسواق والتجمعات الشعبية بدلا من الإدارات الحكومية، وكانت تحدث عمليات نهب في بعض احتجاجاتها، بل كان يُعتدى في بعض الأحيان على مواطنين أبرياء لا علاقة لهم بالموضوع، وحسب الجهات الأمنية، فإن بعض الأجانب كانوا يشاركون في تلك الاحتجاجات، ومما لا شك فيه أن الأجانب كانوا هم الأكثر تضررا من ضبط حالتنا المدنية، فمثل ذلك الضبط سيحرمهم من تزوير وثائق موريتانية، كانت ستسهل لهم الحصول على حق اللجوء في بعض الدول الغربية.
كانت إجراءات التسجيل في الإحصاء الإداري معقدة جدا في العام 2011، وهذا مما يجب الاعتراف به، ولكن ذلك التعقيد كان يتم التعامل معه بشكل مزدوج، فهو مجرد تعقيد إداري عادي عندما يكون المتضرر من مكونة وطنية معينة، ولذلك فلم يثر رفض بعثة الإحصاء في النعمة تسجيل والي الولاية حينها السيد محمد سالم ولد محمد راره بحجة أنه لم يستطع أن يتقدم ببطاقة تعريف والدته الموجودة في ذلك الوقت في المملكة العربية السعودية، لم يثر ذلك الرفض استكارا حقوقيا أو سياسيا أو إعلاميا، حاله في ذلك كحال رفض لجان أخرى تسجيل السيد محمد يحظيه ولد المختار الحسن وهو وزير داخلية سابق، ورئيس سابق لحزب حاكم، والسيد بيجل ولد هميد وهو وزير سابق وكان يرأس في ذلك الوقت حزب الوئام، وغيرهم كثير ممن رُفض تسجيله لنفس السبب المذكور آنفا. ولكن في المقابل، فإن هذه الإجراءات المعقدة كانت تتحول ـ وبشكل تلقائي ـ إلى عمل عنصري تمييزي بغيض يستحق التنديد إعلاميا وحقوقيا وسياسيا من طرف المعارضة، بل وربما يستحق الاحتجاج ميدانيا، إذا ما كان المتضرر ينتمي لإحدى المكونات الوطنية الأخرى، ومن الأمثلة على ذلك ردود الأفعال على رفض تسجيل مستشار بلدي، ومفوض شرطة متقاعد، ينحدران من إحدى مدن الضفة، لنفس الأسباب التي رُفض بسببها تسجيل وزير داخلية سابق، ووالٍ ما زال يزاول مهامه الإدارية.
كان الخطاب السياسي والإعلامي والحقوقي المعارض في ذلك الوقت خطابا تشويهيا لوكالة الوثائق المؤمنة، ينظر إليها بعين واحدة، فيصنف كل حالة من الحالات التي يتضرر منها أحد المنحدرين من إحدى مكوناتنا الوطنية، بأنها عمل عنصري بغيض، ومع تكرر السكوت عن تعقيدات الحصول على الوثائق الثبوتية، إن كانت الضحية من مكونة معينة، واستحضار تلك التعقيدات والتنديد بها، وتصنيفها على أنها عمل عنصري وإقصائي إذا كانت الضحية من المكونة المراد تسويقها على أنها هي المستهدفة بتلك الإجراءات المعقدة، مع تكرر ذلك، ألصقتْ تهمة ممارسة العنصرية بالوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة، وبمن يُديرها في تلك الفترة، وهو الذي يرجع له الفضل، بأنه جعل منها مفخرة وطنية حقيقية تنافس إقليميا، ولكم أن تسألوا الوزير الأول السنغالي الذي أشاد بها في تصريح علني، خلال رئاسته للجنة وزارية، واعترف في تصريحه ذاك بأن بلاده متأخرة جدا في هذا المجال بالمقارنة مع موريتانيا، رغم انخراط البلدين في مسار تطوير حالتيْهما المدنية في نفس السنة (2011).
ومع تزايد حملات التشويه ضد الوكالة، تم فيما بعد تشكيل لجنة لدراسة المشاكل المتعلقة بالحصول على الوثائق المؤمنة، وتولى رئاسة تلك اللجنة الوزير السابق السيد “تام جمبار”، وتوصلت هذه اللجنة إلى أرقام إحصائية أصابت المغالطة التي تقول بعنصرية إجراءات وكالة الوثائق المؤمنة في مقتل، فقد ظهر أن عدد الذين لم يحصلوا في الحوض الشرقي على وثائقهم الثبوتية نتيجة للتعقيدات التي تم وضعها من أجل التأكد من انتمائهم الموريتاني يفوق عدد كل الذين تم حرمانهم من وثائقهم لنفس السبب في ولايتي لبراكنة وكوركول معا.
يعني هذا أنه إذا كانت هناك عنصرية أو تمييز بين المواطنين الموريتانيين تُمارسه وكالة الوثائق المؤمنة، فإن الضحايا كانوا أكثر في ولاية الحوض الشرقي من أي ولاية أخرى، ومع ذلك، لا أحد تكلم خلال السنوات الماضية عن ضحايا الحوض الشرقي، ولم يؤسس أبناء تلك الولاية نسخة من حركة “لا تلمس جنسيتي”، وإنما ظل الحديث خلال السنوات الماضية مقتصرا على حرمان بعض المنحدرين من ولايات الضفة من وثائقهم المؤمنة لأسباب عنصرية، وكانت تلك إحدى المغالطات الكبرى التي بُذِلت جهود سياسية وإعلامية وحقوقية كبيرة لتسويقها للرأي العام الوطني، بل ولتسويقها خارجيا، وما زالت تلك الجهود تبذل حتى يوم الناس هذا.
ويبقى أن أقول ختاما لهذه الفقرة، إن كل ما نُشر من مغالطات وتلفيقات عما تتعرض له بعض مكوناتنا الوطنية من عنصرية وإقصاء من طرف وكالة الوثائق المؤمنة، وكل ما صرح به السياسيون والإعلاميون والحقوقيون خلال السنوات الماضية، بخصوص التمييز بين المواطنين الذي تقوم به الوكالة، كل ذلك “المنتوج الكبير” من المغالطات الذي يسيء إلى سمعة البلد، تم توثيقه في الانترنت، لينضاف إلى أرشيف كبير سبقه، وآخر سيأتي بعده، وكل هذا الأرشيف من المغالطات هو من أجل أن تُصنَّفَ موريتانيا على أنها دولة تُمارس العنصرية والاضطهاد ضد مواطنيها السود.
عن ازدواجية التمييز الإعلامي والسياسي بين الضحايا
لا خلاف على أن هناك بقايا عنصرية تقليدية تُمارس في بلادنا، إن جاز استخدام هذه العبارة، وهي عنصرية في تراجع كبير ولله الحمد، وتجد دائما من يتحدث عنها إعلاميا وسياسيا وحقوقيا، بل إنها تجد دائما من يبالغ كثيرا، بل يُغالط، عند الحديث عنها، وهو ما أوضحته هذه الورقة الكاشفة. لكن في المقابل، هناك عنصرية أخرى وتمييز بين الضحايا من نوع آخر مسكوتٌ عنه، ولا يجد من يدينه، بل لا يجد من يتحدث عنه أصلا.
نعم هناك تمييز سياسي وإعلامي وحقوقي بين الضحايا مسكوتٌ عنه، ولا أحد يتجرأ للحديث عنه، فهناك ضحايا يجدون تضامنا إعلاميا وسياسيا وحقوقيا كبيرا، بل إن واجب التضامن معهم يجيز للبعض استخدام كل وسائل التلفيق والتضليل، وهناك ـ في المقايل ـ ضحايا آخرون لا يجدون الحد الأدنى من التضامن الإعلامي أو السياسي أو الحقوقي.
ولفهم ما أريد قوله تحت هذا العنوان الفرعي من الورقة الكاشفة، فسأقدم لكم بعض الحالات المحددة كأمثلة عن التمييز الإعلامي والسياسي والحقوقي بين الضحايا، مع العلم أن بعض هذه الحالات كنتُ قد استعرضته في وقت سابق.
في يوم 16 مارس 2019 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني في وفاة شيخ طاعن في السن (80 عاما)، وكان ذلك في مقاطعة أنبيكت لحواش شرق البلاد.
بعد أقل من خمسة عشر شهرا من تلك الحادثة، وتحديدا في يوم 28 مايو 2020، تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني آخر في وفاة شاب موريتاني (35عاما)، وكان ذلك في مقاطعة أمبان جنوب البلاد.
دعونا نجري مقارنة سريعة بين هاتين الحادثتين الأليمتين:
من حيث التوقيت: حادثة أمبان وقعت ليلا (الساعة التاسعة)، وفي فترة حظر تجوال شامل بسبب جائحة كورونا، أما حادثة انبيكت لحواش فقد وقعت ضُحًى، وفي فترة لا يوجد فيها أي حظر تجوال من أي نوع.
في حادثة أمبان كان الأمر يتعلق بمطاردة مجموعة من المهربين، وفي حادثة انبيكت لحواش كان الأمر يتعلق بشيخ أعزل يبحث عن قطيع سائم، وإن شئتم قطيع سائب.
وبخصوص الأجواء السياسية، فإن حادثة أنبيكت لحواش وقعت في فترة تجاذب وصدام قوي بين المعارضة والنظام، وهو ما يفترض أن المعارضة لن تترك فرصة يمكن أن تنتقد فيها السلطة، وتدين فعلا من أفعالها، إلا واستغلتها. أما حادثة أمبان فقد وقعت في ظل تهدئة سياسية غير مسبوقة بين المعارضة والنظام، لم يعرف البلد مثيلا لها منذ عقود، وهو ما يفترض أن المعارضة ستتغاضى عن أخطاء السلطة وتتجاهلها، كلما كان ذلك ممكنا.
ومع ذلك، فقد حدث العكس تماما، فالتغطية الإعلامية لحادثة أنبيكت لحواش كانت شبه معدومة تماما، ولم يصدر على الإطلاق ـ وأكررـ لم يصدر على الإطلاق أي بيان من أي حزب سياسي معارض أو غير معارض يندد بالحادثة، ولم تتحدث عنها أي منظمة مجتمع مدني، حتى ولو كانت من منظمات الحقائب، ولذا فقد فمرت تلك الحادثة وكأن شيئا لم يكن، ولولا ذوي الضحية لما علمنا بها أصلا. أما في حادثة أمبان فكانت التغطية الإعلامية واسعة، وتسابقت الأحزاب السياسية إلى إصدار بيانات تنديد قوية، وكان من بين الأحزاب التي أصدرت بيانات تنديد بعد ساعات قليلة من وقوع الحادثة : تواصل ـ اتحاد قوى التقدم ـ التكتل ـ إيناد..إلخ
ولم يتوقف الأمر على الأحزاب السياسية، بل إن بعض الشخصيات الوطنية التي لم تكن تنتمي إلى أحزاب في ذلك الوقت، أصدرت هي الأخرى بيانات تنديد بأسمائها الشخصية، فأصدر الراحل محمد المصطفى بدر الدين رحمه الله تعالى بيان تنديد باسمه، وأصدر المثقف الموريتاني الكبير بدي ولد أبنو المرابطي بيانا مطولا باسمه، وعبر كثيرون عن تنديدهم القوي بالحادثة من خلال آلاف المنشورات في الفيسبوك.
لم يقتصر التنديد بتلك الحادثة، التي صُنفت وبشكل تلقائي، على أنها من ضمن جرائم الجيش الكثيرة التي يرتكبها ضد الموريتانيين السود، لم يقتصر على الداخل الموريتاني، بل إنه تجاوز الحدود، وسمعنا خطابات تنتقد موريتانيا بقوة بسبب تلك الحادثة، وتتهمها بممارسة أبشع أشكال العنصرية والتصفية العرقية ضد السود، سمعنا ذلك من منابر حقوقية في العاصمة السويسرية جنيف، وسمعناه من عواصم دول غربية أخرى.
ولكم أن تسألوا بأي منطق تتم إدانة إطلاق جندي للرصاص ليلا على شاب موريتاني كان يمارس التهريب في فترة حظر تجوال شاملة، ولا تتم إدانة إطلاق جندي آخر للرصاص على شيخ موريتاني في وضح النهار، كان يبحث عن قطيع سائم؟!!.
وهذا مثال آخر: في الحادي عشر من يوليو من العام 2020 تعرض منزل “صمبا تام” لمحاولة عملية سرقة فاشلة، تركت آثارا عادية جدا في الجزء الخارجي من المنزل، وكانت أضرارها شبه معدومة، حسب الصور التي نشرت عن الحادثة. جاءت محاولة السرقة الفاشلة هذه، بعد عمليات سرقة ناجحة كان ضحاياها سياسيون آخرون من بينهم النائب المعارض محمد الأمين سيدي مولود، ولم يفكر أي واحد من هؤلاء في إخراج عملية السرقة عن إطارها العادي لإعطائها بُعدا سياسيا.
أحدثت عملية السرقة الفاشلة التي تعرض لها منزل صمبا تام حالة استنفار إعلامي وسياسي وحقوقي في بعض الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية، وتم إعطاؤها بُعدا عنصريا، وصُنُّفت في بعض بيانات التضامن على أنها عمل مدبر من أجل “تخويف وتهديد” السيد صمبا تام.
بعد الحادثة بيومين، وتحديدا في يوم الاثنين الموافق 13 يوليو 2020 أصدر
“التحالف من أجل إعادة تأسيس الدولة الموريتانية” بيانا شديد اللهجة دعا فيه إلى تسريع البحث عن المعتدين على منزل السيد صمبا تام، وحذَّر فيه من تداعيات هذا الحادث “على السلام والتماسك الاجتماعي في بلد يُعاني من صدمات الماضي ومن تهور في الحاضر”. تضامنت بعض جالياتنا في الخارج مع السيد صمبا تام، وبدا واضحا أن هناك محاولة جادة لتسييس عملية السرقة الفاشلة هذه، وتصنيفها في إطار أعمال العنصرية والاضطهاد التي تمارس ضد بعض الموريتانيين، لتُضاف بعد ذلك إلى كم كبير من المغالطات التي تحاول أن تلصق تهمة العنصرية والاضطهاد بالجمهورية الإسلامية الموريتانية (حكومة وشعبا).
وهذا مثالٌ ثالثٌ وأخير عن ازدواجية التمييز بين الضحايا سأكتفي به، رغم وجود أمثلة عديدة أخرى.
الدكتورة آمنة بوبكر جوب، والدكتورة مروة محمد الأمين سيف، طبيبتان موريتانيتان، شاركتا في مسابقة نظمتها وزارة الصحة، جمعت 60 طبيبا، وظهرت نتائجها النهائية في الأسبوع الثاني من شهر يناير من العام 2023.
لم ينجح من تخصص الطبيبتين أي متسابق، وقد حصلت كل واحدة منهما على نتيجة جيدة في مادة التخصص، ونتيجة متدنية جدا في مادة الثقافة العامة، والتي كانت أسئلتها بسيطة جدا، ولكنها طُرحت بغير لغة التخصص، فبالنسبة لآمنة فكانت أسئلة الثقافة العامة باللغة العربية، وبالنسبة لمروة فكانت أسئلة الثقافة العامة باللغة الفرنسية.
حصلت مروة على معدل 13.4، وتفوقت قليلا على أمنة التي حصلت على معدل 13.2. أما بخصوص التضامن فقد حظيت الطبيبة آمنة بوبكر جوب بحملة تضامن واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك من تضامن معها على أساس أنها من مكونة وطنية تتعرض للعنصرية والإقصاء، وهناك من تضامن معها لأن لديه مشكلة ما مع اللغة العربية التي تسببت في إقصائها، لقد كتب أخصائي الأعصاب الشهير أحمد سالم أكليب متضامنا مع الدكتورة آمنة: “العربية جديدة في امتحان الوظيفة العمومية، وسيأتي زمان يكون معها حفظ القرآن، وهذا كله من أجل إقصاء بعص الشرائح”!!!
كانت حملة التضامن مع الدكتورة آمنة واسعة جدا، وربما غير مسبوقة، حتى الحساب الذي يحمل اسم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، تضامن معها، وقد نُشِر فيه باسم الرئيس السابق: “أدين بشدة إقصاء الدكتورة آمنة بوبكر جوب بهذه الطريقة المشينة، كما أدين واشجب عجز السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية، وتهاونها بالحفاظ على اللحمة الوطنية، وعدم السهر على تساوي الفرص بين ابنائنا خصوصًا أنهم لا تقع عليهم مسؤولية ذلك”.
وفي المقابل، فلم يذكر ذاكر حالة الدكتورة مروة، ولم تجد هذه الدكتورة أي تضامن من أي نوع، على الرغم من تطابق حالتها مع حالة الدكتورة آمنة، وإن كانت هناك من فوارق في الحالتين، فهي لصالح مروة، ذلك أنها تفوقت قليلا في المسابقة على أمنة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن اللغة التي أقصتها هي لغة أجنبية، أما اللغة التي أقصت الدكتورة آمنة فلم تكن لغة أجنبية، وإنما كانت اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية.
كانت مشكلة الدكتورة مروة الأولى هي أنها تنحدر من مكونة وطنية تعاني اليوم من تمييز سلبي في مجال التضامن مع ضحاياها. أما مشكلتها الثانية فهي أن اللغة التي أقصتها هي لغة أجنبية تجد هي الأخرى تمييزا إيجابيا لصالحها على حساب اللغة الرسمية للبلد، وهو تمييز لا يمكن أن نجد له أي تفسير منطقي.
المهم أنه، وفي ظل استمرار حملة التضامن الواسعة مع الدكتورة آمنة، وبعد أن أصبح الجميع على قناعة بأن الدافع لإقصائها كان دافعا عنصريا بحتا، تفضل أحدهم مشكورا، ممن يغرد خارج السرب، بأن كشف لنا في منشور على الفيسبوك عن حالة الدكتورة مروة، والتي تتطابق تماما مع حالة الدكتورة آمنة، وإن كان هناك من فوارق بسيطة، فهي ـ وكما قلتُ سابقا ـ لصالح الدكتورة مروة.
لستُ بحاجة لأن أقول لكم بأن كل ما نُشِر عن “الإقصاء العنصري” للدكتورة آمنة، مازال موجودا على الانترنت، ولا أحد ممن قالوا بذلك الإقصاء العنصري اعتذروا عن قولهم ذاك، أو صححوه بعد ظهور حالة الدكتورة مروة، ومما لا شك فيه أن هذا “الأقصاء العنصري” القائم على مغالطة بَيِّنة، سينضاف إلى ما سبقه، وإلى ما سيأتي بعده من مغالطات يتم توثيقها على الانترنت على أنها حقائق مؤكدة، وهي مغالطات تسعى في مجملها إلى إلصاق تهم العنصرية والإقصاء والاضطهاد ببلدنا الصامد حتى الآن أمام هذا السيل العارم من المغالطات.
ويبقى السؤال: لماذا هذا التمييز الكبير والواضح والبيِّن في التضامن بين طبيبتين موريتانيتين تعرضتا للإقصاء من نفس المسابقة ولنفس الأسباب؟.
لن أجيب على هذا السؤال، وسأترك لكم الحق في أن تختاروا الجواب الذي يناسبكم، ولكن أودُّ فقط أن أشير إلى أن ما يحصل من تمييز في التضامن، قد يحصل شيء مشابه له في مجال التنديد، فهناك أيضا تمييز سلبي في التنديد، ولذا فإن أعمال العنف المشينة التي تكررت مؤخرا في الجامعة، والتي تقف وراءها نقابة طلابية محددة، لم تجد ما تستحق من تنديد، خوفا من أن يُتهم المندد بالعنصرية، ولأني لا أخاف من تلك التهمة (وما فِيَّ لعظام منها)، فإني أشهدكم بأني أندد بشدة بأعمال العنف تلك، سواء منها ما صاحب الانتخابات الطلابية، أو ما كان بعد إفطار الرئيس في الجامعة.
فلنسارع لوأد مغالطة تصنع الآن
في الوقت الحالي يحاول “صنَّاع المغالطات” أن يدفعوا بمغالطة جديدة، من خلال إلصاق تهمة العنصرية ونشر خطاب الكراهية بكل من يدعو الآن إلى وقف الهجرة غير النظامية التي تهدد بلادنا، تهددها أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وديمغرافيا. إن “صنَّاع المغالطات” يحاولون أن يضعونا أمام خيارين سيئين، فإما أن نفتح حدودنا على طول أمام تدفق المهاجرين غير النظاميين، وهو ما يعني أننا قد نضطر لقراءة الفاتحة بعد سنوات قليلة على روح موريتانيا، وإما أن نستمر في رفض تدفق المهاجرين غير الشرعيين، فيلصقون بنا تهمة العنصرية ونشر خطاب الكراهية.
على “صناع المغالطات” في بلادنا أن يعلموا أن ألاعيبهم وحيلهم أصبحت مكشوفة، وأننا لن نقبل ـ تحت أي ظرف ـ باستمرار تدفق المهاجرين غير النظاميين إلى بلادنا، وأننا لن نقبل كذلك بأن نُتهم ـ زورا وبهتانا ـ بممارسة العنصرية ونشر خطاب الكراهية، لن نقبل لا بهذا ولا بذاك، بل أكثر من ذلك فإننا سنمارس ـ هذه المرة ـ سياسة الهجوم بدلا من الدفاع، وذلك لنقول ـ وبأعلى أصواتنا ـ بأن أي مواطن موريتاني يشجع استمرار الهجرة غير النظامية إلى بلده، أو يُطالب بالتغاضي عنها، يستحق أن يوصف بأنه خائن لوطنه، معادٍ للفئات والشرائح الهشة في بلده، لأنها هي المتضرر الأول من الهجرة غير النظامية، مع أن كل المكونات والشرائح والفئات متضررة، وإن بدرجات غير متساوية، والخائن لوطنه لا يحق له ـ بأي حال من الأحوال ـ أن يُقدِّم الدروس لمن يقف في الخطوط الأمامية للدفاع عن بلده وحمايته، وحماية كل مكوناته وأعراقه وشرائحه، وخاصة الهشة منها، من جيوش المهاجرين غير النظاميين الذين يحاولون التسلل إلى بلادنا من كل فج عميق.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
Elvadel@gmail.com